رغم استعادة قدراته الغائبة .. الاقتصاد الفيتنامي في صراع بين طموحات النمو وشيخوخة السكان
واصل الاقتصاد الفيتنامي توسعه منذ بداية العام حتى الآن، محققا معدلات نمو مرتفعة.
وفي الربع الأول من العام بلغت نسبة النمو 5.5 في المائة مقارنة بالفترة نفسها في العام الماضي، وخلال الربع الثاني نجحت في تحقيق معدل نمو للناتج المحلي وصل إلى 7.72 في المائة، وعدت معدلات النمو تلك دليلا على استعادة الاقتصاد لقدراته الغائبة، نتيجة عمليات الإغلاق التي حدثت بسبب جائحة كورونا.
لكن الأوضاع المزدهرة للاقتصاد الفيتنامي التي يعززها الدور المتصاعد لها في التصنيع عالي التقنية والجهود الحكومية المكثفة في الوقت الحالي للانتقال بعيدا عن توليد الطاقة باستخدام الفحم، لا تخفي ندبات واضحة على وجه الاقتصاد الوطني، وتكشف عن تحديات حقيقية بسبب نقص العمالة وتعطيل سلاسل التوريد والتضخم، بما يطرح تساؤلات حول القدرة على المحافظة على مسيرة النمو الراهن مستقبلا.
ويعتقد بعض الخبراء أن النمو القوي للاقتصاد الفيتنامي الذي ما يزال معتمدا على الصادرات، من المرجح أن يستمر بفضل العلاقات الاقتصادية القوية مع الولايات المتحدة، إذ تبدو فيتنام أحد كبار الفائزين في الصراع بين الصين والولايات المتحدة، بعد أن باتت محطة لرسو السفن لإعادة تصنيع كثير من السلع، وتجنب الرسوم الجمركية المتبادلة بين واشنطن وبكين.
ووفقا لبيانات رسمية، ارتفعت الصادرات والواردات الفيتنامية إلى 176 مليار دولار في الربع الأول من العام الجاري، بزيادة 14.4 في المائة، وكما هو الحال في الأعوام السابقة تظل الولايات المتحدة أكبر سوق تصدير لفيتنام بقيمة 25 مليار دولار من المنتجات، بينما تعد فيتنام حاليا عاشر أكبر شريك تجاري للسلع بالنسبة إلى الولايات المتحدة.
وقال لـ"الاقتصادية" بيتر بلوم، الباحث في الاقتصاد الآسيوي، إن "فيتنام تعد شريكا مهما للولايات المتحدة، والدور المحتمل لفيتنام كشريك قوي في المستقبل وليس مجرد متلق للمساعدات والاستثمارات الأمريكية آخذ في التبلور، فعلى سبيل المثال تعد فيتنام مصدرا كبيرا للألواح والخلايا الشمسية للولايات المتحدة، وعلى الرغم من وجود تحقيقات حاليا بشأن مزاعم بشأن تصدير فيتنام مكونات ألواح شمسية صينية الصنع لتجنب رسوم مكافحة الإغراق الأمريكية على الصين، فإن الجهود مبذولة من قبل الإدارة الفيتنامية والحكومة الأمريكية لتطويق الخلاف ونقل العلاقات الثنائية إلى مرحلة نوعية جديدة بين الطرفين".
وبالفعل، فإن تحليل بيانات الصادرات الفيتنامية وبيانات الولايات المتحدة للواردات من فيتنام، يتضح منها أن الحصة الأمريكية من مبيعات فيتنام الخارجية ارتفعت بشكل كبير، فخلال العام الماضي كانت واردات الولايات المتحدة من فيتنام تعادل نحو 29 في المائة من إجمالي الصادرات الفيتنامية، وهي نسبة أعلى بكثير من متوسط 20 في المائة تقريبا قبل عام 2019.
لكن اعتماد الاقتصاد الفيتنامي في جزء ملموس من نموه على الأسواق الأمريكية وقدرتها على استيعاب المنتجات الفيتنامية، بات يطرح اليوم تساؤلات حول إمكانية أن يكون لتلك العلاقة تأثير سلبي إذا ما مني الاقتصاد الأمريكي بحالة من الركود، ما سيعني تلقائيا تراجع قدرته على استقبال المنتجات الفيتنامية، والذي سينعكس بصورة غير إيجابية على النمو الاقتصادي في الدولة الآسيوية.
مع هذا، ترى الدكتورة كارولين سميث أستاذة التجارة الدولية في جامعة لندن، أن تباطؤ الاقتصاد الأمريكي من المرجح أن يقلص من نمو الصادرات الفيتنامية والنمو الاقتصادي، إلا أن تأثير هذا التباطؤ سيعوضه الاقتصاد المحلي القوي لفيتنام.
وقالت لـ"الاقتصادية"، "الاقتصاد الفيتنامي يعد قوي ومعدل النمو المتوقع في الربع الثالث من هذا العام 10 في المائة، بينما يتوقع نمو الناتج المحلي الإجمالي 7.5 في المائة هذا العام، لكن حتى الآن لم تنعكس تلك القوة الاقتصادية على ارتفاع أسعار أسهم الشركات الفيتنامية بسبب الزيادة الشديدة في أسعار الفائدة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وكذلك الحملة التي تقوم بها الحكومة الفيتنامية لإعادة تنظيم القطاع الصناعي في البلاد" .
وتبنى الدكتورة كارولين سميث وجهة نظرها تجاه مستقبل الاقتصاد الفيتنامي، من منطلق أن النمو الاقتصادي في تلك الدولة الآسيوية يبنى بالأساس على عوامل القوة الداخلية التي يتمتع بها الاقتصاد الفيتنامي، إذ يتوقع أن تصبح فيتنام ثاني أكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا بعد إندونيسيا، وأن تحتل المرتبة الـ20 في الاقتصاد العالمي بحلول عام 2036. وكانت الإصلاحات الاقتصادية في منتصف الثمانينيات إلى جانب الاتجاهات العالمية المواتية هي من ساعد فيتنام على تحقيق نمو اقتصادي سريع ودفع البلاد من بلد فقير إلى بلد يقع ضمن فئة البلدان متوسطة الدخل في حده الأدنى.
ويستخدم الاقتصاد الفيتنامي خططا خمسية للنمو، والخطة الحالية التي انطلقت العام الماضي تمتد حتى عام 2025، وترمي إلى دفع البلاد نحو مزيد من التصنيع مع مزيد من الاندماج في سلاسل التوريد العالمية بالسعي إلى إقامة شراكات تجارية وتنويع الصادرات.
وتطمح فيتنام إلى الانضمام إلى نادي البلدان مرتفعة الدخل بحلول عام 2045، لكن لكي يحدث هذا، فإن عليها مواصلة النمو بمعدل سنوي يقدر بـ5 في المائة، وعلى الرغم من أن معدلات النمو المحققة حتى الآن تشير إلى أن البلاد تسير في المسار المخطط له، لكن هناك مجموعة من التحديات الرئيسة التي يجب التغلب عليها لتصبح فيتنام ضمن نادي الدول مرتفعة الدخل.
وهنا يقول لـ"الاقتصادية" سيمون دين الاستشاري في البنك الدولي، إن "الطموحات الفيتنامية كبيرة والتحديات أيضا، فجزء كبير من النمو الاقتصادي يعتمد على التجارة الدولية، ومع تراجع التجارة الدولية، فإن البلاد ستكون في حاجة إلى تحسين أداء تنفيذ سياستها بشكل أكبر، ولا سيما في القطاعات التي ستتأثر بالأتمتة وتغير المناخ".
ويستدرك قائلا "يضاف إلى ذلك مشكلة شيخوخة السكان، ففيتنام تمر بمرحلة انتقال ديمغرافي، حيث يشيخ السكان في مرحلة مبكرة من التنمية الاقتصادية، ولهذا فهي تواجه مشكلة اقتصادية تعرف باسم التقدم في السن قبل الثراء".
وبالفعل، ففيتنام على اعتاب شيخوخة مأساوية للسكان، ففي عام 2015 أصبحت مجتمعا متقدما في السن، وبحلول عام 2035 ستكون مجتمعا مسنا، ما يجعلها واحدة من أسرع الدول شيخوخة في العالم، وذلك حتى قبل أن تصبح غنية، إذ لا تزال بعيدة عن فئة الدخل المتوسط الأعلى، وتعني سرعة شيخوخة سكانها أنه سيكون لديها وقت أقل للتكيف مع مجتمع مسن، مما كان لدى عديد من الاقتصادات المتقدمة.
وحول تلك المعضلة الاقتصادية، يعلق إس. دي . بلوم الباحث في صندوق الأمم المتحدة للسكان، قائلا "فيتنام حاليا في مرحلة حرجة، وبدأت نافذة الفرص الديمغرافية في الانغلاق مع تسارع الشيخوخة، ومنذ عام 2014 وعدد السكان في سن العمل يتراجع، ومن المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه حتى عام 2042 عندما تغلق الفرص الديمغرافية".
وأضاف "التقدم في السن قبل أن تصبح ثريا، يعني أن فيتنام تواجه مجموعة فريدة من التحديات التي ستتطلب جهود إصلاح كبيرة، ويجب أن تهدف الدولة إلى الاستفادة من نافذة الفرص الديمغرافية مع التخفيف أيضا من الرياح المعاكسة للنمو ديمغرافيا وتحديات التكاليف المالية المرتفعة للشيخوخة، وسيتطلب ذلك اتخاذ خيارات صعبة وتنفيذ إصلاحات سياسية رئيسة".
وتواجه فيتنام ما يعرف بمعضلة "الآن أو ابدا"، فمن دون إصلاحات كبيرة سيؤدي التحول الديمغرافي في البلاد إلى تباطؤ كبير في النمو طويل الأجل، والذي إلى جانب الضغوط المالية الكبيرة لمجتمع يتسم بالشيخوخة يمكن أن يؤدي إلى مستويات عالية من العجز والديون، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة وتهديد استقرار الاقتصاد الكلي.
مع هذا، يمكن لفيتنام أن تزدهر اقتصاديا واجتماعيا عبر إصلاحات رئيسة ببناء سوق عمل صحية والاستثمار في رأس المال البشري وتوسيع أنظمة الرعاية الاجتماعية وضمان استدامتها.