قطاع العقارات يتعثر أمام ارتفاعات الفائدة .. مواجهة التضخم تسرع احتمالات الفقاعة
خلال فترة تفشي وباء كورونا، ازدهرت سوق العقار العالمية، وارتفعت أسعار السكنية منها في جميع أنحاء العالم تقريبا، إذ أظهر مؤشر أسعار المساكن العالمية لشركة نيت فرانك إحدى أكبر شركات الاستشارات العقارية في العالم، أن الأسعار ارتفعت 19 في المائة على المستوى الدولي بين الربع الأول من 2020 والربع الأول من هذا العام، وقد سجلت بعض الأسواق ارتفاعات أعلى من ذلك بكثير.
وأثارت هذه الارتفاعات السعرية حينها مخاوف من حدوث فقاعات محتملة في سوق العقار السكنية، ودفع الوضع بعض الحكومات للتدخل أو اتخاذ تدابير احتياطية استعدادا للتدخل لمنع السوق العقارية من الانفجار. وفي الواقع، فإن عديدا من صناع القرار الاقتصادي ومحافظي البنوك المركزية ورؤساء مجالس إدارات البنوك التي تمنح قروضا عقارية، أعربوا حتى قبل ظهور وباء كورونا عن قلقهم البالغ بشأن ارتفاع أسعار العقارات.
وهذا لم يحدث فقط في الولايات المتحدة، وإنما أيضا في أوروبا وآسيا وفي عديد من الاقتصادات الناشئة في إفريقيا وأمريكا الجنوبية، وكان السبب الأساسي وراء تلك الارتفاعات أعوام طويلة من أسعار الفائدة المنخفضة التي أبقت الطلب قويا على المستوى العالمي.
ومع تفشي الجائحة في أصقاع الأرض المختلفة، وإغلاق الأسواق، وتوقف المصانع، اضطرت الحكومات إلى ضخ تريليونات الدولارات من الحوافز لتعويض الأشخاص الذين باتوا مجبرين على البقاء في منازلهم وعدم الذهاب إلى العمل.
وجلبت ثقافة العمل من المنزل تغيرات في نمط شراء المنازل بالبحث عن منازل أكبر حجما، وخارج نطاق المدن المزدحمة، ومع أسعار الفائدة المنخفضة للرهن العقاري بات في متناول كثيرين الشراء وأصبحت قوى الطلب أكثر.
الآن يبدو المشهد وكأنه أخذ في التحول بدرجة 180 درجة، فارتفاع أسعار الفائدة يؤدي إلى كبح جماح طفرة العقارات العالمية، وفي قارات العالم الخمس بدأت أسواق العقارات السكنية في الخروج من حالة الارتفاع الشديد والمبالغ فيه أحيانا إلى هدوء سعري تدريجي، بل إن الأمر وصل إلى حد انخفاض قيمة المساكن في بعض البلدان، نتيجة رفع البنوك المركزية تكاليف الإقراض.
وفي كندا انخفض متوسط سعر المنزل 8 في المائة في شهر يونيو الماضي، مقارنة بالفترة ذاتها العام الماضي، وفي نيوزيلندا تراجعت الأسعار بالنسبة نفسها، مقارنة بأسعار أواخر العام الماضي، أما في السويد فانخفضت الأسعار 1.6 في المائة.
من جانبه، يرى جايسن رايت، رئيس قسم الرهن العقاري في مجموعة نيت ويست المصرفية، أنه "بالنسبة للبنوك المركزية يعد التخلص من الفقاعة العقارية التي حدثت نتيجة جائحة كورونا وما قبلها من أوضاع اقتصادية، جزءا لا يتجزأ من جهودها في معركتها الدائرة للسيطرة على التضخم".
وأضاف لـ"الاقتصادية" قائلا: "لكن يجب التخلص من تلك الفقاعة العقارية تدريجيا، فعادة ما يؤدي انخفاض أسعار المساكن إلى إضعاف الإنفاق الاستهلاكي للأسر، حيث يعد أصحاب العقارات أن انخفاض قيمة عقاراتهم يعني أن ثروتهم تتبخر، ما يدفعهم إلى تقليص إنفاقهم الاستهلاكي تلقائيا، ومن ثم يتراجع التضخم، وبصفة عامة يتباطأ النشاط الاقتصادي بشكل عام مع تضاؤل عمليات البناء والتشيد، كما أن البنوك تصدر قروضا أقل للمقرضين".
واستدرك قائلا "المخاطر الآن تكمن في الخوف بأن تعتقد الأسواق، أن البنوك المركزية تتحرك بشكل سريع لكبح جماح التضخم، أو أن فلسفتها برفع أسعار الفائدة للتصدي للتضخم غير مجدية أو فعالة"، لافتا إلى أن "الشعور بأن البنوك المركزية تتحرك بقوة كبيرة، قد يتسبب في انتقال سوق العقارات العالمية من مرحلة التباطؤ في النمو إلى مرحلة الرغبة السريعة في التخلص من العقارات بصفتها استثمارات محكومة عليه بالخسارة في الأجل القصير على الأقل نتيجة تراجع الأسعار، هذا قد يوجد زيادة مفرطة في المعروض، وإلى انفجار الفقاعة العقارية".
مع هذا، فإن خطر حدوث انهيار في القطاع العقاري على المستوى العالمي أمر بعيد المنال حتى الآن، فرغم التضخم لا يزال المقترضون في وضع مالي أفضل بكثير عما كان عليه الوضع عند حدوث الأزمة المالية 2008، كما أن النظام البنكي العالمي من القوة لاستيعاب أي هزات في القطاع العقاري.
لكن هذا لا ينفي إمكانية حدوث الأزمة في بعض الدول وليس على المستوى الدولي، وأفادت مجموعة موثوق بها من التقارير الاقتصادية الدولية بأن دول مثل كندا ونيوزيلندا وأستراليا والسويد معرضة لخطر انفجار فقاعتها العقارية، وذلك وفقا لمقاييس مثل حصة العقارات في اقتصاداتها ومدى الازدهار في القطاع العقاري وحساسية مالكي المنازل للزيادات السريعة في أسعار الفائدة.
ويتوقع أن يصل حجم سوق العقارات العالمية إلى 5.85 تريليون دولار بحلول 2030، مسجلا معدل نمو سنوي مركب 5.2 في المائة خلال الفترة من 2022 إلى 2030، بينما قدرت السوق هذا العام بنحو 3.8 تريليون دولار.
وتدفع تلك الأرقام بالباحث إل. سي ستيفين من وحدة الأبحاث العقارية في شركة ليندليز للإشارة إلى أن التوسع الاقتصادي والزيادة غير المنضبطة في أعداد سكان المدن والإصلاحات الحكومية، والإيجارات المنخفضة نسبيا في الاقتصادات النامية والناشئة مثل الهند والصين والبرازيل وشيلي والأرجنتين وعديد من الدول الإفريقية قد زادت من الطلب على الوحدات العقارية في تلك البلدان.
وقال لـ"الاقتصادية" إنه "وفقا للأمم المتحدة يعيش ما يقرب من 50 في المائة من السكان في الاقتصادات النامية والناشئة في المناطق الحضرية، ومن المقرر أن يصل هذا الرقم إلى 65 في المائة في الأعوام المقبلة نتيجة الهجرة الكثيفة إلى المدن، لهذا من المتوقع أن يصل قطاع العقارات السكنية في الاقتصادات النامية والناشئة إلى 2.21 تريليون بحلول 2030".
مع هذا يرى بعض الخبراء أنه من المبكر وضع صورة نهائية في الوقت الراهن لمسار العلاقة المقبلة بين رفع أسعار الفائدة والقطاع العقاري على المستوى الدولي، فالإقرار بأن السوق العقارية قد تعثر بسبب المعدلات المرتفعة للفائدة، وتباطأ المبيعات، وانخفاض حركة المشترين المحتملين بشكل حاد، لا يجب أن ينسينا عامل الوقت عند تحليل المشهد العقاري، فتلك التغيرات ربما تبدو لكثير من المستثمرين والراغبين في الشراء وقتية، وسيكون هناك حاجة إلى بعض الوقت لتعتاد الأسواق على فكرة اتجاه البنوك المركزية لرفع الفائدة.
في المقابل، أوضح لـ"الاقتصادية" المهندس جاستين دين الخبير الاستشاري في مجال الإسكان العقاري، أنه "ليس من الواضح مقدار تباطؤ المبيعات نتيجة تعثر الطلب في مقابل عدم كفاية العرض، فهناك كثير من الأجزاء المتحركة في سوق العقار الدولية حتى الآن، فمثلا يحتمل أن يكون مستوى العرض المنخفض مرتبطا بأن عددا كبيرا من مالكي العقارات لا يبيعون عقاراتهم لأنهم لا يزالون قادرين على تحمل الرهن العقاري المنخفض".
وأضاف "أن هناك قطاعا كبيرا تمنعه مخاوفه من عدم القدرة على تحمل التكاليف إلى تأجيل عملية البحث عن منزل، وقد يقلق البعض الآخر من استمرار ارتفاع الأسعار، بحيث إذا لم يتحركوا الآن في ظل مستويات الفائدة الحالية، فإن مواصلة ارتفاع أسعار الرهن العقاري يعني أنهم لن يكونوا قادرين على شراء وحدة سكنية في المستقبل. وبالعكس، فإن التضخم سواء تعلق بارتفاع أسعار الشراء أو زيادة الإيجارات قد يحفز البعض على الشراء في الوقت الراهن قبل أن ترتفع الأسعار أكثر في المستقبل"
مع هذا يقر المهندس جاستين دين بأنه من المحتمل أن يكون هناك تأثير سلبي لارتفاع أسعار الفائدة في سوق العقارات، ويصعب أن تتعايش معدلات الرهن العقاري المرتفعة والأسعار المرتفعة والطلب القوي معا، إذ يبدو هذا وضعا غير منطقي من وجهة نظره.
ويدرك محافظو البنوك المركزية أن تقلص قطاع العقارات يعني تسريح عمال البناء وضعف الطلب على المعادن، خاصة الصلب وغيره من السلع الأخرى، كما أن هبوط أسعار العقارات السكنية يربك ميزانيات الأسر والبنوك، ولهذا أيضا تأثير سلبي في أجزاء أخرى من الاقتصاد، وإذا تفاقم هذا الوضع، فإن ذلك قد يترتب على ضغوط على الاقتصاد الكلي، في مواجهة تلك المخاطر قد تقرر البنوك المركزية عدم رفع أسعار الفائدة بالقدر الواجب، بل وقد تتوقف عن المضي قدما في زيادة الفائدة ولو مؤقتا، حتى لا تصيب القطاع العقاري بأضرار تنعكس سلبا على مجمل الاقتصاد الوطني.
ويبدو الاحتمال الأرجح أن يتباطأ نمو قطاع العقارات العالمي مع ارتفاع أسعار الفائدة، مع هذا لا يزال يوجد بعض أسباب التفاؤل، فمعدلات البطالة الدولية لا تزال منخفضة، وغالبا ستحرص البنوك المركزية أن يكون الرهن العقاري في متناول الأغلبية العظمى من الأسر، خشية أن يؤدي تقليص قدرة المستهلكين على اقتناء منزل إلى إصابة السوق العقارية بالركود بما يزيد من معاناة الاقتصاد ككل.