تذبذبات الأسواق واحتمالات الركود
الجميع كان ينتظر خطوة المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع الفائدة مجددا، فهو يمضي في سياسة نقدية مختلفة تماما عن تلك التقليدية التي اتبعها لعقدين من الزمن على الأقل، والتي تستند إلى الإبقاء على الفائدة بحدودها الصفرية قدر الإمكان، وأصبح السؤال الآن في الأوساط العالمية عن مستوى رفع الفائدة الأمريكية في المستقبل، وليس عما إذا كانت سترتفع أم لا.
الزيادة الأخيرة التي بلغت 75 نقطة أساس، لتصل تكاليف الإقراض الإجمالية إلى 2.5 في المائة، ستتبعها أخرى في المراجعة المقبلة لـ"الفيدرالي" في أيلول (سبتمبر)، ولن ينتهي العام الجاري قبل زيادة أخرى ربما أوصلت الفائدة إلى حدود 3.5 أو 3.75 في المائة. فالمشرعون الأمريكيون لم يعودوا يحتملون ضربات الموجة التضخمية، وهم يسعون بكل ما يملكون إلى تجنيب دخول اقتصاد بلادهم دائرة الركود.
بالطبع، تحتاج الأسواق إلى بعض الوقت لامتصاص تأثيرات القرار الأمريكي الأخير، وإن حققت بعض المكاسب الآنية في أعقاب القرار، مثل الأسهم الأوروبية، لكن في النهاية ستتأثر الأسهم سلبا، بسبب ارتفاع تكلفة التمويل على الشركات عموما، ومع ذلك فإن تشديد السياسة النقدية الأمريكية يعطي قوة دفع للسندات التي ترتفع عوائدها، كما أنها تمثل في النهاية ملاذا آمنا أكثر ربحا، بما في ذلك الذهب الذي تتراجع أهميته الاستثمارية في ظل فائدة مرتفعة على الدولار الأمريكي.
وبصرف النظر عن الضغوط التي تتعرض لها الدول النامية من جراء مستويات الفائدة الأمريكية، إلا أن عوائد السندات تدر على واشنطن أموالا كبيرة تحتاج إليها في الوقت الراهن لتمويل برامج الإنقاذ أو التحفيز، أي أن الخطوة تعد مصدرا آخر للتمويل، وإن حدت من هوامش النمو المأمول في هذا الوقت بالذات. الأمر ينسحب سلبا على ساحة القروض التي ستصبح أكثر تكلفة، فضلا عن الديون المقومة بالدولار التي تكبل عددا كبيرا من الدول، فخدمة هذه الديون ترتفع، وفي كل الأحوال، ستتواصل سياسة رفع الفائدة الأمريكية في الأشهر المتبقية من العام الجاري على الأقل، حتى إن معظم البنوك المركزية الرئيسة في العالم اعتمدتها للأسباب نفسها، وهي السيطرة على التضخم، والمحافظة على ما أمكن من مستويات النمو، وتجنب الركود بأي ثمن، فالاقتصاد الأمريكي تفادى حتى الآن الركود، إلا أن ذلك ليس مضمونا، إذا ما بقي المسار الاقتصادي في حالة عدم اليقين، وإذا ما استمرت مسببات ذلك، بما فيه الأعباء التي تتركها الحرب في أوكرانيا على الاقتصاد العالمي كله، وعدم وجود مؤشر واحد على انفراج قريب للأزمة الأخطر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
لا يرى جيروم باول رئيس "الفيدرالي الأمريكي" بديلا عن رفع الفائدة إلى أن يضمن استقرار الأوضاع، والسيطرة على ارتفاع معدلات التضخم المستمرة، أو على الأقل حتى تتضح صورة الاقتصاد العالمي، فاستحقاقات رفع الفائدة بدلت في الواقع موقفه التقليدي بالمحافظة على أطول مدة للتيسير الكمي، تماما مثل جانيت يلين وزيرة الخزانة الأمريكية، التي كانت تعتقد كغيرها من المشرعين في الغرب، بضرورة المحافظة على فائدة صفرية لدعم النمو، خصوصا في أعقاب المشكلات التي تركتها جائحة كورونا في الساحة، وتؤكد أن الاقتصاد الأعلى في العالم ليس في حالة ركود، بل تصفه بأنه انكماش معمم للاقتصاد، حتى لو كان الناتج الإجمالي المحلي في الفصل الثاني سلبيا. إلا أن أصوات المعارضة المتمثلة في الحزب الجمهوري، ترفض هذه التحليلات التي لا تمت لواقع الاقتصاد الأمريكي الحالي بصلة، ولا تتماشى معه، وترى أن المسألة محاولة للتلاعب بالأرقام.
وخلال الفترة المقبلة، ستكون هناك تقلبات حقيقية على الساحة الدولية من جراء رفع الفائدة الأمريكية، التي ستضغط على الأسواق، كما أنها ستدفع البنوك المركزية الأخرى إلى رفع الفائدة لديها، ليس فقط لكبح جماح التضخم، بل لمواكبة مسيرة الدولار في هذه الفترة الحرجة.