التقليل من جدوى لجان المناصحة: قليل الجدوى
قرأت وسمعت بعض الأطروحات في إعلامنا المحلي, التي تحاول التقليل من جدوى لجان المناصحة في محاورة أصحاب الفكر الضال..! مع قيام هذه اللجان بدور كبير في إقناعهم بالرجوع عن قناعاتهم الفكرية عبر أسلوب المناقشة العلمية, والحوار الهادئ, مما كان له أكبر الأثر في رجوع كثير من هؤلاء الشباب إلى جادة الصواب, ومن هنا يتملكك العجب حين تسمع أو تقرأ لمن يحاول إسقاط مشروع هذه اللجان بمبررات باهتة, وربما بمغالطات واضحة, يدركها جيداً من لديه الحد الأدنى من العلم الشرعي, ومن أبرز هذه المبررات, أو المغالطات: طعنهم في هذه اللجان؛ بحجة أنها لم تحقق غاياتها من إقناع أصحاب الفكر الضال بالرجوع عن قناعاتهم الفكرية, بدليل تورط بعضهم في عمليات إرهابية لاحقا, أو بحجة أن أعضاء هذه اللجان من أصحاب الخطاب الديني, وأنهم ممن أسسوا الأرضية الدينية لتلك الأفكار المتطرفة! وبالتالي فإن المنطلقات الدينية التي ينطلق منها أصحاب الفكر الضال, هي نفسها التي ينطلق منها أعضاء لجان المناصحة..! والهدف من هذه الأطروحات المناكفة لعمل هذه اللجان: إما إقناع أصحاب القرار بالاكتفاء بخيار القوة, أو على الأقل بالتشكيك في مشروع هذه اللجان ذات الصبغة الدينية, من أجل فرض حلول أخرى, لا تنسجم مع الاتجاه الديني, ومن ذلك: محاولة إلغاء بعض المفاهيم الشرعية حول بعض القضايا المتعلقة بالجهاد, أو بالولاء والبراء, أو بالردة... إلخ, وذلك عبر اقتناص بعض الآراء الشاذة, أو عبر لي أعناق النصوص الشرعية لتطويعها لهذه الآراء أو تلك, حيث يمكن نسف القناعات الفكرية بمضادات (آر بي جي), حتى تقتلع هذه القناعات من جذورها, وبالعيار الثقيل...! والواقع أن هذا الطرح يجعلنا نتحول من قناعات فكرية متطرفة إلى معالجات فكرية متطرفة, ولهذا أسجل استغرابي من هذه الأطروحات الجانحة التي يراد منها إقناع المسؤول بجدواها, ومن توفيق الله تعالى للمسؤولين في بلادنا أنهم لم يرفعوا رأساً بهذه الأطروحات المجانفة للصواب, والتي يمكن الجواب عليها ملخصاً عبر النقاط الآتية:
1- أن أسلوب المناصحة والمناقشة والحوار بالتي هي أحسن, هو من الخيارات المحسومة شرعا, والنصوص الشرعية طافحة بالحث على هذا الخيار الوعظي والتربوي؛ لما له من أثر كبير في إعادة المنصوح إلى جادة الصواب, كما أن أسلوب المناصحة قد أثبت جدواه على المستويين المحلي والعالمي, ولهذا تسمح كثير من الدول الغربية بدخول بعض جماعات الوعظ لإقناع مساجينها - من ذوي الأفكار الجانحة - بترك ما يؤمنون به من أفكار وسلوك مدمر, وذلك من أجل الحد من أعداد المجرمين, وتخفيف العبء على السجون التي امتلأت بأصحاب السوابق الإجرامية, وقد كان لتلك الجماعات الوعظية أثر كبير في إعادة كثير من المجرمين إلى الطريق السوي, وذلك لأنها تخاطب الفطرة, وتكاشف الروح, وتزرع في نفوس المساجين الوازع الديني, والذي بدوره يبني حصانة وحماية من الداخل, تكون بمثابة مضادات حيوية لفيروسات الجريمة, ونلاحظ هنا أن اختلاف المعتقد بين الوعاظ وبين أرباب السوابق لم يكن مؤثراً؛ لأن تلك الجماعات الوعظية خاطبت الفطرة المركوزة أساساً في النفوس, وأحيتها من جديد, وبالتالي كانت الفطرة النقطة الجامعة بين أولئك الوعاظ وأرباب السوابق.
2- محاولة البعض توريط رموز الدعوة والوعظ والدين فيما يسمى الإرهاب, وكأن الشباب التكفيري قد تخرجوا على أيدي أصحاب خطاب ديني متشدد, وهذه محاولة يائسة فعلا؛ لسبب بسيط جدا, وهو أن الخطاب الديني موجود منذ عشرات السنين, ومع ذلك لم نر هذا الفكر المتشدد "بوضوح" إلا بعد أحداث أيلول (سبتمبر)..! مما يعني أن هذا الفكر الضال قد تم استيراده من خلال مواقع الإنترنت التي عبرت الحدود, واخترقت الحواجز الأسمنتية, وتسللت إلى البيوت, لتصل إلى الشباب اليافع الغض, والذي يمكن التأثير عليه بأدنى شبهة, كما بدا هذا واضحاً من اعترافات أعداد كبيرة من هؤلاء الشباب عبر وسائل الإعلام المحلية.
3- محاولة إقناع المسؤول أنه يجب تغيير المنطلقات التي ينطلق منها أعضاء لجنة المناصحة, بحجة وحدة المنطلق بينها وبين أصحاب الفكر الضال (الخطاب الديني الواحد وهو الكتاب والسنة..!) وهذه المحاولة ساذجة؛ وذلك لأن المنطلقات إذا كانت مغايرة, والثوابت إذا كانت مختلفة, فهذا يعني الفشل من أول وهلة؛ لأن صاحب الفكر الضال سيغسل يديه ثلاث مرات من هذا الناصح إذا كان ينطلق من منطلقات مغايرة, ومن هنا فإن محاولة إسقاط وحدة المنطلق الشرعي, هو في الواقع إفشال لمشروع المناصحة؛ لأن طبيعة اختلاف المنطلقات بين المتحاورين تعني أنهما سيسيران في خطين متوازيين, لا يمكن أن يلتقيا أبداً إلا في حالات استثنائية ربما...! إذن فوحدة المنطلق الشرعي ضرورة لنجاح المناصحة والحوار, وفي الوقت نفسه تتم معالجة الشبهات العالقة في الأذهان بالثوابت والنصوص الشرعية ذاتها, دون حاجة للالتفاف عليها بشكل أو بآخر.
4- وهذا يحدونا إلى الحديث عن خطأ علاج هذه القناعات الفكرية عبر تقليم بعض الثوابت الشرعية, ومنها جهاد الطلب المجمع عليه في القرون السالفة, أو مفهوم البراء من الكفار... إلخ, وذلك بالأخذ ببعض الآراء الشاذة, عبر بوابة تحريف النصوص عن معناها, أو عبر تأويلها بما لا ينسجم مع معناها الظاهر..., وذلك من أجل نسف قناعات أصحاب الفكر الضال, والحقيقة المكتسبة من ثقافة النصح والوعظ تدل على أن أي محاولة لتحطيم أو نسف ثوابت ثابتة للطرف المقابل, أو تجاهلها عمداً, بأي حجة كانت, هو في الواقع نسف لمشروع المناصحة من أساسه, وبالتالي, فإنه لا يحل المشكلة, بل يعمّقها, ويزيدها تعقيداً؛ وذلك لأن الشخص المستهدف ستتسلل إليه قناعة, وهي أن الطرف المحاور مخادع في ثوب ناصح, أو أنه ذئب في جلد حمل, وهنا يتحقق عكس مقصود المناصحة..!
5- ومن هنا, فإن نسف فكرة إقامة حد الردة "مثلا" لا يعالج الشبهة, بل إنه يصنع حججاً للمتطرفين...! ولذا, فإن محاولة السطو على النصوص الشرعية من خلال التحريف أو التبديل, أو محاولة الالتفاف على إجماع علماء الأمة بطريقة أو بأخرى, هو تكريس للفكر الضال, وليس العكس.., وهي محاولة تدل على سطحية في معالجة الشطح الفكري, أو هو تسطيح متعمد ربما, لأن المشكلة ليست في الثوابت ـ معاذ الله ـ, وإنما في بعض الشبهات الفكرية التي صنعت من وراء الشاشات الحاسوبية, ثم تم بثها من خلال بعض الرسائل المباشرة الموجهة عبر الإنترنت, وبعض وسائل التقنية الحديثة, مستهدفة الشباب الغر, ومستغلة الظروف الدولية, التي يمر بها عالمنا الإسلامي هذه الأيام, من احتلال غاشم, ومشاهد القتل والتمثيل بالرجال والنساء والأطفال.
إن بقاء بعض الترسبات الفكرية في نسبة ضئيلة من أصحاب الفكر الضال, وعلوق بعض الشبه في أذهانهم, وعودة نسبة محدودة منهم إلى بعض قناعاتهم الفكرية, أمر متوقع جدا؛ إذ لم تجر العادة أن يقنع جميع المخالفين (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك), فالاختلاف المركوز في طبائع الناس يقضي بأن يبقى بعض الشباب متمسكا بقناعاته, مهما حاول الناصحون ثنيهم عن فكرهم الضال, ولهذا, فإن الشأن في "الأغلبية" التي تقبلت النصح, واقتنعت بالفكر الوسطي, وهذا هو "العدد المستهدف" عند العقلاء, وهو الذي يدل على النجاح أو الفشل في حسابات استطلاعات الرأي العالمية, وفي ذهن كل موضوعي ومحايد ينشد الإصلاح, وبهذا يتضح أن أي محاولة لتقليل الجدوى من لجان المناصحة, هي في الواقع قليلة, بل عديمة الجدوى, والله من وراء القصد.