استثمار العقول .. القيمة والندرة
الابتكار والإبداع عنصران ملازمان لحركة الاقتصاد الكلي لأي دولة متطورة، استنادا إلى تجارب عملية خاضتها تلك الدول، فحصدت نتائج مبهرة، ظهرت آثارها في اقتصادها حراكا وتطورا وقيمة مضافة، وكذلك على مستوى دخلها الإجمالي، وارتفاع نسب الإنتاجية، ومستوى المعيشة. ولا شك أن الأمم التي تضع هذين العنصرين ضمن أولويات فكرها الجماعي والفردي، استطاعت أن تنهض اقتصاديا وتنمويا، ووجدت حلولا جذرية لمشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية. وهناك علاقة وثيقة تربط التنمية المستدامة، والحراك الاقتصادي بالابتكار والإبداع في كل مجالات الحياة، إذ صارت محددات النمو الاقتصادي في أي دولة تقاس بمدى تفعيل عناصر الابتكار وتحويله إلى إبداع، يسهم في تسهيل طرق معاش الناس، وتحديد معايير جودة الحياة، ورفاهية الإنسان.
ويشير خبراء الاقتصاد إلى أن القرن الـ 21 سيشهد تحولا في ثروات الأمم، وستكون القدرة العقلية والخيال والابتكار وتنظيم التقنيات الحديثة هي العناصر الاستراتيجية الأساسية في التقدم الاقتصادي. ولذلك تحرك معظم الدول الغربية في اتجاه معالجة تراجع الحراك الإبداعي والابتكاري على ساحاتها، وليس هناك تفسير واحد لتراجع هذا النوع من الحراك خصوصا. فهناك مجموعة من التفسيرات تجمع كلها على أن هذا التراجع يحصل بالفعل، وأن وتيرته تزداد، رغم وجود عوامل مساعدة للوقوف في وجهه، مثل المخصصات المالية، ولا سيما تلك التي ترصدها المؤسسات الكبرى العابرة للقارات. والحق أن الحكومات في الغرب تولي اهتماما بالغا بالابتكار والإبداع، عبر سلسلة من البرامج، صارت جزءا من موازناتها العامة. إلا أن النقطة التي يثيرها الباحثون بهذا الشأن تتعلق بالكوادر المؤهلة لدخول ساحة الابتكار والإبداع إلى درجة أن دراسات حديثة أظهرت "مثلا"، أن متوسط عمر الباحث الذي ينشر بحثا مختصا في مطبوعة عريقة ارتفع في العقد الماضي من 30 إلى 35 عاما. وهناك من يشير إلى أنه سيرتفع أكثر إذا ما استمر المسار البحثي الابتكاري ضمن إطاره الحالي.
ووصف بعض المختصين المشهد الراهن أن الغرب يواجه "قحطا" في العقول. وهذا صحيح إلى حد بعيد، وفي الغرب يعترفون حقا بهذه الثغرة التي تعد مخيفة في ساحة انطلقت منها الثورة الصناعية الكبرى بكل عوائدها، وفي مقدمتها تلك التي ترتبط بالابتكار لا التجديد. والمشكلة الرئيسة هنا، تكمن في توجه الأجيال التي توفر الروافد الأساسية للابتكار والبحث والإبداع، إلى مسارات أخرى، فضلا عن التراجع اللافت في التفكير الإبداعي، خاصة في أوساط الصغار، الذين يمثلون في النهاية الكوادر الإبداعية الأساسية في المستقبل. كل هذا يحصل رغم توافر الوسائل المساندة لأي شخص من كل الشرائح العمرية، لإظهار ما يملكه من فكر إبداعي ابتكاري، بما في ذلك أجهزة الكمبيوتر العادية التي تقدم إمكانات للبحث والنشر وبرامج مساعدة في أي مهمة إبداعية. وبسبب قلة المبدعين أكاديميا ومهنيا نلاحظ أن معظم الدول الغربية فتحت أبوابها من خلال برامج معينة لاستقطاب العقول النيرة والمبدعة من الدول الأخرى بطرح مميزات تحفيزية لهم ومنها منحهم الجنسيات وتقديم تسهيلات أخرى للاستفادة من خبراتهم في المجالات المتطورة المختلفة.
في ظل هذا المشهد سجلت الدراسات المختصة تراجعا لافتا في مجالات البرمجة والطب والزراعة، وبالتالي انخفاضا كبيرا في مجالات البحوث، ما يفسر "مثلا" الارتفاع المطرد في أعمار الأشخاص الذين حصلوا على جوائز "نوبل" في المجالات المختلفة، خصوصا العلمية منها. وهذه كلها مؤشرات على حقيقة وجود "ندرة عقول" كما يحب البعض وصفها. فأي تقلص في المجالات البحثية والابتكارية يعني ببساطة وجود أزمة في العقول المنتجة لها، ولا سيما في ظل وجود حقيقي للتمويل اللازم من قبل الجهات المختلفة على الساحة الغربية. فعلى سبيل المثال ترصد المفوضية الأوروبية أموالا كبيرة في مجال البحث العلمي، وتحاول أن تصل إلى أي باحث يمثل قيمة علمية حقيقية في أي دولة من دول الاتحاد.
وتفعل الولايات المتحدة الشيء نفسه، لكن البرامج والبحوث تحتاج في النهاية إلى عقول تطلقها وتعمل عليها وتوفر الأدوات اللازمة لتحقيق غاياتها. ويعتقد بعض المختصين، أن من بين الحلول الممكنة لهذه المشكلة أن يقوم الطلاب بالتركيز على حل مشكلات المجتمع التي توجد فيها جامعاتهم، بدلا من تكديس المعلومات داخل العقول. بمعنى أن يكون البحث العلمي جزءا من حراك مباشر على الأرض، كي يتحقق التفاعل مع الأفكار. وهذه النقطة صحيحة تماما، على اعتبار أنه لا قيمة لأي بحث إذا ظل نظريا أو بعيدا عن البيئة التي أطلق منها. لكن المشكلة تبقى منحصرة بصورة أساسية في انخفاض الابتكار والإبداع، لتراجع العقول الدافعة لها. وهذا ما يدفع أي جهة إلى النظر في كيفية "توليد" العقول عبر المحفزات أو من خلال طرق تعليمية تربوية متطورة، وتحفيز الخيال عند شرائح الأطفال. فأغلب الآباء في الغرب يعتقدون أن مستقبل أبنائهم سيكون أسوأ منهم، وهذا ما يؤكد مرة أخرى حقيقة التراجع اللافت في العقول الإبداعية.