فرنسا .. إعادة اكتشاف «روح التسوية»

فرنسا .. إعادة اكتشاف «روح التسوية»
فرنسا .. إعادة اكتشاف «روح التسوية»

هناك مقولة قديمة في السياسة الفرنسية، "إن الناس يصوتون بقلوبهم في الجولة الأولى من الانتخابات، وبعقولهم في الجولة الثانية". إن هذا القول المأثور لم يعد صحيحا، ففي الانتخابات الوطنية هذا العام صوت المواطنون الفرنسيون بشكل تكتيكي منذ البداية، حيث دعموا المرشحين الأوفر حظا من الكتلة التي يدعمونها. لقد أدت هذه الديناميكية خلال الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في أبريل إلى إحراز تقدم في ترشيحات جان - لوك ميلانشون من أقصى اليسار ومارين لوبان من أقصى اليمين مع احتلال الرئيس إيمانويل ماكرون للوسط، والآن يتم تكرار هذا النمط في الانتخابات التشريعية الفرنسية. بحسب ما يرصده تقرير هوجو دروشون، أستاذ مساعد في النظرية السياسية في جامعة نوتنجهام، ومؤلف كتاب نيتشه "السياسة العظيمة" (مطبعة جامعة برينستون، 2016).
خلال الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية التي انتهت أخيرا، كان الرابح الأكبر لوبين رئيسة حزب التجمع الوطني، التي عززت تمثيلها الدبلوماسي من ثمانية مقاعد فقط إلى 89، علما بأنه لم يحدث من قبل في عهد الجمهورية الخامسة أن يصعد نجم اليمين المتطرف بهذا الشكل، وفي حين إن الجبهة الوطنية آنذاك فازت بـ35 مقعدا في 1986 تحت قيادة والد لوبان، فلقد تم توصيف تلك النتيجة باعتبارها حدثا لا يتكرر، وعلى النقيض من ذلك تؤكد نتيجة هذا العام تمكن التجمع الوطني بشكل متزايد من ترسيخ مكانته في السياسة والمجتمع الفرنسي.
إن النتيجة الصادمة، التي فاجأت حتى قادة الحزب نفسه، يمكن تفسيرها في ضوء نظام الدورتين في الانتخابات الفرنسية، حيث يتواجه الفائزان بالجولة الأولى في جولة ثانية. لقد اختار الناخبون الوسطيون في عديد من المناطق، الذين كان عليهم الاختيار بين مرشح من أقصى اليمين ومرشح من أقصى اليسار الامتناع عن التصويت، وفي الوقت نفسه اختار عديد من مؤيدي أقصى اليسار أو أقصى اليمين تأييد الطرف الآخر بدلا من التصويت لمصلحة مرشح من الوسط، حيث كان من الواضح أن "الجبهة الجمهورية" التي كانت تتصدى لأقصى اليمين قد سقطت.
سيتمكن التجمع الوطني الآن من إنشاء مجموعة برلمانية "تتطلب 15 نائبا على الأقل" في الجمعية الوطنية، ما يعني الحصول على مزيد من المنافع فيما يتعلق بالتمويل والقدرة على الوصول إلى مناصب في السلطة. لقد كان نواب التجمع الوطني معروفين حتى الآن بتغيبهم وعدم كفاءتهم مقارنة بأي شيء آخر، لكن هذا قد يتغير مع تشكيل المجموعة البرلمانية.
إن بإمكان أقصى اليسار الذي لديه 142 نائبا أن يدعي أنه المعارضة الرئيسة لحكومة ماكرون، حيث تمكن تحت راية الاتحاد الشعبي والبيئي والاجتماعي الجديد من تشكيل ائتلاف من أحزاب يسارية بما في ذلك حزب "فرنسا الأبية" الذي ينتمي إليه ميلانشون، والشيوعيون والاشتراكيون وحزب الخضر، وفي حين إن حصص كل من تلك الأحزاب من الأصوات ظلت مستقرة منذ خمسة أعوام فإن التصويت التكتيكي من قبل مؤيديهم قد آتى ثماره، حيث زاد العدد النهائي لمقاعدهم بأكثر من الضعف "مقارنة بـ58 مقعدا في 2017".
لكن ميلانشون فشل في تحقيق مسعاه بأن يصبح رئيسا للوزراء حيث كان الاتحاد الشعبي والبيئي والاجتماعي الجديد بعيدا جدا عن الفوز بـ289 مقعدا "من بين 577 مقعدا" وهو العدد المطلوب لتحقيق أغلبية مطلقة، كما فشل في حشد الشباب من أجل التصويت "حيث بقي ذلك التصويت غائبا بشكل عنيد" وعلاوة على ذلك ونظرا إلى أن ميلانشون اختار ألا يترشح لمعقد برلماني، فإن السؤال يبقى مفتوحا فيما يتعلق بمن سيقود اليسار في البرلمان؟ ونظرا إلى أن الأحزاب المختلفة ستحتفظ بتجمعاتها فلن يكون هناك فصيل برلماني رسمي للاتحاد الشعبي والبيئي والاجتماعي الجديد، فهل سيتمكن هذا التحالف من استدامة نفسه بدون قائده الذي يتمتع بالجماهيرية؟ أما ماكرون فإن بإمكانه فعليا أن يدعي أنه حقق أشياء لأول مرة في حياته السياسية القصيرة، فإلى جانب كونه أصغر زعيم فرنسي منذ نابليون وأول رئيس يفوز بإعادة انتخابه منذ جاك شيراك "في 2002"، سيكون الآن أول رئيس منذ فرانسوا ميتران "في 1988" يتمتع بأغلبية غير مطلقة في البرلمان.
لقد حصل ائتلاف ماكرون - الذي يتألف من حزبه "الجمهورية للأمام" وحزب مودم برئاسة فرانسوا بايرو وحزب اوريزونز بقيادة ادوارد فيليب - على 246 مقعدا، أي ينقصه 43 مقعدا من أجل تحقيق الأغلبية المطلقة. إن السؤال المطروح الآن هو كيف سيقوم ماكرون واليزابيث بورن رئيسة وزرائه الجديدة بتطبيق الأجندة الحكومية؟ إن الأمر الأكثر الحاحا الآن هو قيام بورن بعمل تعديل وزاري يعكس حقيقة أن ثلاثة من الوزراء السابقين لم يعد انتخابهم، بما في ذلك اميلي دي مونتشالين وزيرة الانتقال البيئي وهو منصب وزاري يمثل أحد أهم أولويات ماكرون.
لكن يجب ألا نستهين بإصرار ماكرون على الدفع قدما بأجندته، فعندما تم انتخابه لأول مرة 2017، حدد هدفين عريضين لفترة رئاسته هما إصلاح الاقتصاد الفرنسي، وزيادة الاستثمار العام على المستوى الأوروبي. ولقد حقق النجاح بالفعل في هاتين النقطتين. إن الاقتصاد الفرنسي هو أكثر الاقتصادات ديناميكية ضمن منطقة اليورو، وفي 2020 تبنى الاتحاد الأوروبي خطة التعافي من كوفيد - 19 التي تبلغ قيمتها 750 مليار يورو "790 مليار دولار".
سيحتاج ماكرون إلى إيجاد حلفاء جدد في الجمعية الوطنية لمواصلة التقدم الذي تمكن من تحقيقه. يتطلع عديد من أعضاء الائتلاف إلى حزب الجمهوريين من يمين الوسط، علما بأن مقاعدهم التي يبلغ عددها 61 كافية لمنح ماكرون الأغلبية في الجمعية الوطنية، لكن التوصل إلى اتفاق رسمي يبدو غير مرجح. بدلا من ذلك، قد يتطلع ماكرون إلى إبرام صفقات محددة حسب الظروف مع كل من يسار الوسط ويمين الوسط، وفي حين توجد خلافات بين الأطراف حول مسألة سن التقاعد "يريد ماكرون واليمين زيادتها إلى 65، بينما يريد الاتحاد الشعبي والبيئي والاجتماعي الجديد خفضها إلى 60"، فإن الانقسامات حول تكلفة المعيشة وقضايا سياسة المناخ هي انقسامات تتعلق بنطاق تلك المواضيع ولا تتعلق بالمواضيع نفسها. فعلى سبيل المثال يدعم كل من الاتحاد الشعبي والبيئي والاجتماعي الجديد والجمهوريون التمويل لتعديل 700 ألف منزل سنويا لتحسين كفاءة الطاقة، والتكيف مع ظاهرة الاحتباس الحراري.
إن الزمن وحده كفيل بأن ينبئنا بإذا ما كان بإمكان فرنسا إعادة اكتشاف روح التسوية التي ميزت الجمهوريتين الثالثة والرابعة، حيث سادت الديمقراطية البرلمانية، أم ستواجه مشكلات التقاعس والجمود نفسها التي دفعت شارل ديجول إلى تأسيس الجمهورية الخامسة برئاستها القوية في 1958. لقد وعد ماكرون باتباع نهج أفقي في الحكم قائم على التوافق في ولايته الثانية. إن من تفسيرات نتيجة الانتخابات النيابية هي أن الناخبين صدقوا هذا الوعد.

الأكثر قراءة