قفزات الروبل تثير تساؤلات حول جدوى العقوبات .. هل تستفيد روسيا من قوة عملتها؟
قبل يوم واحد من تدفق القوات الروسية إلى داخل الأراضي الأوكرانية في 24 شباط (فبراير) الماضي، كان سعر صرف الدولار الأمريكي في مواجهة الروبل الروسي يوازي تقريبا 81 روبلا لكل دولار.
وقعت الحرب وفرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون سلسلة عقوبات غير مسبوقة على روسيا، تعد الأقصى من نوعها في التاريخ الحديث، وانهار الروبل إلى مستويات غير مسبوقة، ليصل إلى 150 روبلا لكل دولار.
وفي عالم صرف العملات، فإن هذا الانهيار يعد مخيفا ليس فقط للأشخاص الذين لديهم ثروات بالعملة الروسية، بل أيضا للدولة واقتصادها وقدرتها على الصمود وتمويل آلتها العسكرية واحتياجات مواطنيها من مختلف السلع والخدمات، وأيضا لعديد من الدول والاقتصادات، التي تعد السياح الروس رافدا مهما لإمدادها بالعملات الأجنبية.
واصلت الدول الغربية فرض أنواع مختلفة من العقوبات مستهدفة الاقتصاد الروسي، وعلى الرغم من ذلك لم يظهر الكرملين أي بوادر تكشف استعداده إنهاء "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا، وحدث ما لم يكن فارضو العقوبات يتوقعونه أو يرغبون في حدوثه على الأقل، لأنه إلى حد ما يخل بمفهوم وأهداف العقوبات.
فالروبل الروسي الذي توقع العديد من الخبراء أنه سيواصل التراجع والانهيار، بدأ يستعيد عافيته تدريجيا، ويواصل استرداد قوته إلى الحد الذي بات فيه اليوم أقوى مما كان عليه قبل الحرب، إذ يبلغ سعر صرف الدولار الأمريكي في مواجهة الروبل نحو 54.20 روبل لكل دولار، وهو سعر صرف ليس فقط أفضل مما كان عليه قبل الحرب، بل الأفضل في الأربعة أعوام الماضية، ولم يواصل الروبل قفزاته أمام الدولار فقط، بل وأمام اليورو أيضا ليصل الآن إلى أفضل سعر صرف له في مواجهة العملة الأوروبية الموحدة خلال الأعوام السبعة الماضية.
هذا الوضع الإيجابي للروبل، الذي جعل بعض الخبراء في الولايات المتحدة يعدونه العملة الأفضل أداء في العالم هذا العام، يدفعنا للتساؤل حول الأسباب التي ساعدت العملة الروسية على تحقيق هذا النجاح؟
الدكتورة إلين موريس الاستشارية السابقة في البنك الدولي ترى أن صعود العملة الروسية تشير إلى أن العقوبات عزلت روسيا جزئيا عن الاقتصاد العالمي ولم تعزلها بالكامل.
ولـ"الاقتصادية" تعلق قائلة "في العادة، فإن الدولة التي تواجه عقوبات دولية ونزاعات عسكرية كبيرة تشهد فرارا للمستثمرين وهروبا لرؤوس الأموال، ما يؤدي إلى انخفاض قيمة عملتها، لكن الإجراءات الروسية غير المعتادة لمنع الأموال من مغادرة البلاد، إلى جانب الارتفاع الكبير في أسعار الوقود التقليدي، وإصرار موسكو على ربط المبيعات بالروبل وانصياع عديد من المشترين الأجانب وتحديدا الشركات الأوروبية لذلك أوجد طلبا على العملة الروسية ورفع قيمتها".
وتضيف "أسعار السلع الأساسية مرتفعة حاليا، وعلى الرغم من حدوث انخفاض في حجم الصادرات الروسية بسبب الحظر والعقوبات، فإن الزيادة في أسعار السلع الأساسية كان كفيلا بتعويض تلك الانخفاضات وتجاوزها".
يضاف إلى ذلك أن موجة العقوبات الغربية أدت إلى ترك عديد من الشركات الأجنبية للبلاد، ومن ثم انخفضت الواردات، وارتفع فائض الحساب الجاري الروسي - الفرق بين الصادرات والواردات - إلى مستوى قياسي بلغ 96 مليار دولار.
هذا الوضع الإيجابي للحساب الجاري الروسي يتوقع أن يستمر لبعض الوقت، وربما هذا تحديدا ما دفع البنك المركزي الروسي لتخفيف بعض القيود المتعلقة بالتعامل في العملات الأجنبية، والتي فرضت في أعقاب الحرب وانهيار سعر صرف الروبل، كما انخفضت أسعار الفائدة الرئيسة من 20 في المائة إلى 9.5 في المائة، وهو السعر نفسه تقريبا عندما بدأت الحرب، ولم يعد من الضروري على المصدرين استبدال 80 في المائة من أرباحهم من النقد الأجنبي في غضون ثلاثة أيام، وبات من المسموح به للمقيمين الآن تحويل ما يصل إلى 50 ألف دولار شهريا إلى حسابات بنكية أجنبية، ويعني ذلك أن روسيا يمكنها الآن الانتقال إلى وضع مالي أكثر طبيعية.
مع هذا، فإننا نشهد انقساما بين المحللين الغربيين حول الفائدة، التي ستعود على الاقتصاد الروسي من القوة النسبية التي يتمتع بها الروبل حاليا، فالعقوبات تجعل من الصعب على الروس إنفاق هذا الروبل القوي نسبيا على الواردات أو في الخارج بسبب قيود السفر، ما يعني من وجهة نظر البعض أن لا فائدة كبيرة ترجى لروسيا من قوة عملتها، بينما يرى آخرون أن الأمر أكثر تعقيدا وخطورة من ذلك بكثير، وأن قوة العملة الروسية قد يساعد على إضعاف تأثير العقوبات بشكل كبير مستقبلا.
الباحث في الشأن الاقتصادي إل.جي . كيريل يرى أن الحكومة الروسية كانت حريصة للغاية للدفاع عن عملتها الوطنية، أكثر من تصديها للعقوبات أو حتى أكثر من معالجتها لمشكلات الاقتصاد الوطني، وأنها اتخذت أقصى التدابير الممكنة لإنقاذ الروبل، والسبب ببساطة من وجهة نظره أن الروبل "مرئي" وأصداء انهياره أو تراجع قيمته بشكل شديد في مواجهة الدولار الأمريكي تكشف نجاح العقوبات، كما أنها تصنع حالة من الذعر بين المواطنين ورجال الأعمال بما يزيد من وضع الاقتصاد المحلي تدهورا، وأن ارتفاع قيمة الروبل في مواجهة العملات الأجنبية يبعث برسالة روسية قوية للرأي العام الخارجي مفادها أن روسيا قوية والدليل على ذلك أن عملتها قوية.
ويقول "الروبل القوي لا يعني أن المواطن الروسي لا يعاني ارتفاع الأسعار، ووفقا لبيان البنك المركزي الروسي، فإن معدل التضخم بلغ في الثالث من الشهر الجاري 17 في المائة، بينما التقديرات غير الرسمية أعلى من ذلك".
ومن وجهة نظره أن ارتفاع قيمة الروبل في الوقت الحالي لا يسهم في حل مشكلات الاقتصاد الروسي، بل يزيد من تعقيدها، إذ يضعف من قدرة موسكو على التصدير، في وقت هي فيه في أمس الحاجة إلى زيادة صادراتها إلى البلدان غير الغربية مثل الصين والهند والدول العربية والإفريقية التي لا تطبق العقوبات الغربية.
ويرى بعض الخبراء أن وزير المالية الروسي أنطون سيلوانوف ربما لا يكون سعيدا كثيرا بشأن ارتفاع سعر صرف الروبل بشكل كبير بعد ما يشبه حالة الانهيار التي مني بها، فهذا التقلب الكبير وخلال فترة زمنية صغيرة يعني أننا إزاء عملة لا يمكن التنبؤ بمسارها وسلوكها بشكل كبير، وربما يدفع هذا بكثير من الأشخاص بالنأي عنها حتى إن كانت قوية، إذ لا يمكن توقع دورة الارتفاع والانخفاض لها بشكل صحيح.
لكن في المقابل، فإن بعض الخبراء يرون أنه من الضروري عدم الاستهانة بالتحسن الجاري لسعر صرف الروبل في مواجهة العملات الدولية وأبرزها الدولار الأمريكي.
ويرى البروفيسور مارك ديفي، أستاذ الاقتصاد الدولي في عدد من الجامعات الدولية أن الدول الغربية ومع ارتفاع سعر صرف الروبل بدأت تجادل بأنه لا ينبغي استخدام سعر الصرف كمؤشر على مدى فعالية عقوباتها، ووجهة النظر السائدة بين الرسميين الغربيين أن النظام المالي الروسي قد صمد أمام الصدمة الأولية، لكن انخفاض الناتج المحلي الإجمالي والنقص في المدخلات الصناعية نتيجة تراجع الواردات من شأنه أن يجبر موسكو على وقف الحرب في نهاية المطاف، لكن وجهة النظر تلك في حاجة إلى إعادة نظر.
ولـ"الاقتصادية" يعلق قائلا "الفائض التجاري الروسي يعني باختصار أن روسيا تكسب أموالا ولا تنفقها، وهذا يعني أن روسيا قادرة على تعويض احتياطياتها من العملات الأجنبية بعد أن صادرت الدول الغربية نحو 60 في المائة من تلك الاحتياطيات، ومن ثم فإن قوة الروبل وزيادة الاحتياطيات المالية يوفر استقرارا ماليا لروسيا، ويترافق ذلك في أحد جوانبه مع جاذبية اقتصادية للشركات في الاقتصادات غير المنحازة في هذا الصراع مثل الصين والهند وجنوب إفريقيا والبرازيل للاستثمار في روسيا".
ويضيف "كما أن الشركات الصغيرة التي تنتج بدائل السلع الغربية ستشعر بأن هناك فرصة إيجابية ومثرية للعمل في السوق الروسية، يضاف لذلك أن التكلفة التي ستدفعها روسيا للحصول على التكنولوجيا الغربية من الأسواق السوداء ومن خلال عملية التهريب سيكون من السهل عليها سدادها بفضل قوة الروبل والاحتياطيات المالية الضخمة المتراكمة لديها".
تتفق كاثرين إيفانوف الباحثة في التجارة الدولية مع وجهة النظر تلك وتؤكد أنه "لا يجب الاستهانة بتحسن سعر صرف الروبل في مواجهة العملات الدولية، خاصة على الأمد الطويل، فاستمرار هذا الاتجاه يعزز من قبول الأسواق الدولية بالتبادل التجاري مع روسيا باستخدام الروبل في عقد الصفقات الثنائية، وهذا يثير الجدل بين المراقبين ويسرع من الاتجاه الدولي الراهن الذي يحاول تقليص جعل الدولار الأمريكي العملة الرئيسة في التجارة الدولية".
ارتفاع سعر صرف الروبل لا ينفي أن الانكماش الاقتصادي الحاد ملمح رئيس حاليا في الاقتصاد الروسي، ما يعني أن جميع القطاعات الأخرى تعاني.
وعلى الرغم أن أغلب الشركات الغربية تمكنت من تصفية أعمالها في الأسواق الروسية دون المخاطرة بالربحية بشكل كبير، فإن قوة الروبل تجعل هناك فرصة لعديد من البلدان، التي قررت عدم فرض عقوبات على موسكو لتعزيز تعاونها مع الاقتصاد الروسي بتوفير المدخلات الأساسية وقطع غيار السيارات والسلع الاستهلاكية، التي لم يعد إنتاجها حكرا على البلدان الغربية.
باختصار الاستقرار المالي الروسي والتحسن المتواصل لسعر صرف الروبل يجعل مراهنة الولايات المتحدة وحلفائها على الآثار المدمرة للعقوبات في الأمد الطويل محل شك بالنسبة للبعض.