أزمات تغذي بعضها
ظلت الأرقام مستمرة في الارتفاع بالنسبة إلى عدد الأشخاص الذين يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد ويحتاجون إلى مساعدات غذائية عاجلة منقذة للحياة ودعم سبل العيش – وهذا الوضع ينذر بالخطر، وبذلك اتسعت دائرة ورقعة الدول والأقاليم التي يتجاوز فيها حجم وشدة أزمة الغذاء الموارد والقدرات المحلية. وإن "الاتجاهات المقلقة" في انعدام الأمن الغذائي هي نتيجة لعدة عوامل يغذي بعضها بعضا، بدءا من الصراع إلى الأزمات البيئية والمناخية، ومن الأزمات الاقتصادية إلى الصحة مع الفقر وعدم المساواة كأسباب ثابتة.
ومع استمرار نمو سكان العالم، ستكون هناك حاجة ماسة إلى بذل مزيد من الجهد والابتكار من أجل زيادة الإنتاج الزراعي بشكل مستدام، وتحسين سلسلة التوريد العالمية، وتقليل فقدان الأغذية وهدرها، وضمان حصول جميع من يعاني الجوع وسوء التغذية على الطعام المغذي. ويعتقد الكثيرون في المجتمع الدولي أن من الممكن القضاء على الجوع في الجيل القادم، ويعملون معا في سبيل تحقيق هذا الهدف.
وأكدت توصيات صدرت عن مؤتمرات دولية أنه من حق كل فرد الحصول على طعام آمن ومغذ، بما يتفق مع الحق في الحصول على غذاء كاف والحق الأساسي لكل فرد في أن يكون في مأمن من الجوع. ودعت هذه المؤتمرات ورفعت شعارات "تحدي القضاء على الجوع"، الذي أطلقته الجمعية العامة للأمم المتحدة وطالبت الحكومات والمجتمع المدني والمجتمعات الدينية والقطاع الخاص ومؤسسات البحوث إلى الاتحاد من أجل مكافحة الجوع والقضاء على أسوأ أشكال سوء التغذية.
ومنذ الأزمة المالية العالمية وما تبعها من قضايا، والعالم يعاني ارتفاع أسعار الغذاء حيث ارتفع مؤشر أسعار الأغذية بحسب منظمة الغذاء العالمية "فاو" من 72 قبل الأزمة المالية حتى بلغ ذروة الارتفاع في 2011 بوصول المؤشر إلى 131.9، ثم تراجع حتى بلغ 98.1 في 2020 ثم عاد ليقفز بحدة في 2021 مع تنامي مشكلة سلاسل الإمداد ليبلغ 125.7، ولكنه تجاوز كل هذه الأرقام في أيار (مايو) الماضي مع وصوله إلى رقم قياسي 157.4 نقطة، ومن الملاحظ في العقد الأخير أنه كلما تجاوز مؤشر أسعار الغذاء حاجز 100 نقطة كان شبح المجاعة يلوح في الأفق، فقد حذرت منظمة الغذاء العالمية في 2011 وهو ذروة ارتفاع مؤشر أسعار الغذاء من مجاعة كبيرة في القرن الإفريقي، خاصة الصومال، ورغم الجهود الأممية من أجل معالجة الأزمة، إلا أن الحلول كانت وقتية، وكان الدعم لتجنب الكارثة وليس لمعالجة أسباب الأزمة، وإذا كانت الأسباب خلف شبح المجاعة ونقص الغذاء تنحصر في الماضي في مشكلات الصراع المحلية أو بسبب المناخ والجفاف، فإن الأمور اليوم تحمل في طياتها أسبابا عدة مجتمعة، فالجفاف يضرب بأطنابه القرن الإفريقي نتيجة غياب أربعة مواسم أمطار متعاقبة خلال عامين، وتشير توقعات الأرصاد الجوية إلى أن نقص المياه لن تخف حدته قبل نهاية العام، على أقل تقدير، وقد فقد آلاف المزارعين محاصيلهم وحيواناتهم، وتواجه مجتمعاتهم الريفية تمزقا حيث بدأت العائلات في الهجرة بحثا عن الغذاء والمراعي وقد سبقت هذا وذاك مشكلات عديدة في سلاسل الإمداد العالمية بسبب الجائحة التي أوقفت العمل في الموانئ العالمية وقادت إلى ارتفاع أسعار الشحن وبالتالي ارتفع مؤشر أسعار الغذاء العالمية في 2021 بنسبة 28 في المائة عن 2020.
ثم أتت الحرب الروسية - الأوكرانية لتبدد الآمال المتبقية في الدعم مع ارتفاع مؤشر أسعار الغذاء لأعلى نسبة مسجلة حتى الآن وبارتفاع قدره 60 في المائة عن أيار (مايو) 2020، وهذا الارتفاع السريع في الأسعار يقلص الآمال في وصول المساعدات، كما أن روسيا وأوكرانيا كانتا قبل الحرب تزودان إفريقيا بـ40 في المائة من احتياجاتها من الحبوب، وبعد توقف سلاسل الإمداد توقف التدفق من هذا الشريان الحيوي.
هكذا تبدو الصورة قاتمة، فالأسعار تقفز بحدة وبشكل لافت مدعومة بكل القضايا التي أسهمت في الوضع الراهن والمعقد فعلا، وأصبح خطر انعدام الأمن الغذائي يتجاوز تهديده القرن الإفريقي ليشمل الملايين حول العالم، في معاناة لا تقتصر أسبابها على الحرب الروسية في أوكرانيا. وفي ظل هذه الأوضاع السيئة إذا لم يوسع العالم نظره بعيدا عن الحرب في أوكرانيا ويتصرف على الفور، فإن انفجارا في وفيات الأطفال على وشك الحدوث في القرن الإفريقي، والمعنى خلف هذا الوضع واضح، فالمشكلة الغذائية التي كانت تعانيها دول القرن الإفريقي وهي الجفاف، كان يمكن معالجتها من خلال المساعدات الدولية، التي كانت تتدفق بانتظام رغم مشكلات الصراع المحلية، وفي وقت كانت الأسعار العالمية داعمة، وهناك وفرة في المحاصيل، مع سلاسل إمداد مستقرة، لكن الوضع الحالي لا يشبه أي حالة سابقة، فالأسعار وصلت إلى مستويات قياسية ما يجعل توافر المساعدات المالية أمرا شاقا هذه المرة، حتى إذا استطاعت المنظمات الدولية توفير الدعم فإن وصول هذه الإمدادات من الحبوب في الوقت المناسب يعد أمرا محفوفا بالشك في ظل استدامة الصراع في أوكرانيا واتجاه دول أخرى في العالم إلى إيقاف التصدير. وطبقا لتقارير صادرة من الأمم المتحدة فإن حجم المساعدات الذي يتم تقديمه حاليا والتمويل من المجتمع الدولي لا يعدان كافيين حتى الآن لحماية الأشخاص الأكثر عرضة للخطر.
وأشارت تقارير نشرتها "الاقتصادية" إلى أن أكثر من 1.7 مليون طفل في الصومال، وإثيوبيا، وكينيا، في حاجة عاجلة إلى العلاج من سوء التغذية الحاد، وهناك أكثر من 7.2 مليون شخص في إثيوبيا يحتاجون إلى مساعدات غذائية بينما يحتاج 4.4 مليون شخص إلى المساعدة للحصول على الماء، وحذر برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة من أن هناك 32 مليون شخص في أنحاء المنطقة الغربية من القارة الإفريقية معرضون لخطر انعدام الأمن الغذائي، وإننا فقط في بداية جزء صغير للغاية من المشكلة.
وأخيرا إذا أردنا منع حدوث أزمة غذاء عالمية كبرى، فعلينا أن نتحرك الآن، وعلى العالم كله أن يعمل معا، وأعتقد أن المجتمع الدولي يجب أن يرقى إلى مستوى هذه المهمة، من خلال الاستفادة من العمل الجماعي وتجميع الموارد، ليصبح تضامننا العالمي أقوى ويصل إلى أبعد مدى.