العقارات والفائدة وتصحيح المسارات
خلال الأيام الماضية اتضح كيف كان العالم يترقب بقلق وينتظر إعلان بنك الاحتياطي المركزي الأمريكي زيادة أسعار الفائدة وكيف تحركت معظم البنوك المركزية الأخرى في العالم ورفعت أسعار الفائدة تباعا بنسب متفاوتة، حيث تأثرت الأسواق العالمية بهذا التحرك الجديد من جوانب متنوعة. وعلى هذا الصعيد، وعموما في الأسواق الغربية، وإذا أخذنا قطاع الإسكان مثالا فإنه يتعرض لضغوط قوية من جراء رفع أسعار الفائدة، فهذه الأخيرة في الأغلب ما تكون متغيرة بحسب ما تقرره البنوك المركزية، ولا تكون ثابتة على القروض السكنية إلا في حالات نادرة، أي أن المصارف المقرضة تزيد وتخفض الأقساط عند كل مراجعة للفائدة تقوم بها البنوك المركزية.
في عام 1990، على سبيل المثال، تخلى عشرات الآلاف من مالكي المنازل في بريطانيا عن عقاراتهم، بعد أن أقدمت حكومة مارجريت ثاتشر آنذاك على رفع الفائدة إلى 15 في المائة، لضمان بقاء الجنيه الاسترليني ضمن آلية الصرف الأوروبية، أي ألا يخرج منها بصورة مهينة للدولة البريطانية، نتيجة تراجعه إلى مستويات متدنية تاريخية، وحصلت أحداث مشابهة، وإن بصورة خفيفة في عدد آخر من الدول الغربية.
اليوم، ومع قيام البنوك المركزية وعلى رأسها المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، برفع تدريجي لمعدلات الفائدة، تتعرض أسعار المساكن عالميا إلى ضغوط كبيرة، ويتراجع الطلب عليها حتى في مدن معروفة بقوة الطلب في كل الظروف التي تمر بها اقتصاداتها، ويبدو واضحا، أن البنوك المركزية عازمة على المضي قدما في رفع الفائدة، على أساس أنها الآلية المتاحة الوحيدة والسريعة لكبح جماح الموجة التضخمية التي تضرب الاقتصاد العالمي حاليا، فقد ارتفعت أسعار المستهلك في بعض الدول إلى 10 في المائة، في حين تحدد البنوك المركزية الحد الأقصى لها عند 2 في المائة، الأمر الذي يهدد بحدوث ركود جديد بعد أشهر قليلة فقط من ركود جلبته جائحة كورونا إلى العالم أجمع.
وفي العامين الماضيين، حتى في ظل ضربات كورونا على الاقتصاد، بقيت أسعار المساكن مرتفعة، بل حققت زيادات بلغت أكثر من 20 في المائة على أساس سنوي في آذار (مارس) الماضي في الولايات المتحدة، في أسرع ارتفاع لها منذ أكثر من 35 عاما، لكن الأمر أصبح مختلفا الآن، مع الزيادات التدريجية لأسعار الفائدة، فكل المؤشرات تدل على تباطؤ الأسعار، وتراجع حجم منح القروض السكنية بعدما صارت أكثر تكلفة على المقترضين، في وقت لا أحد يعرف أين سيتوقف مسار رفع الفائدة وسط تفاقم الأزمات الاقتصادية.
وقد استفادت أسواق العقارات في العامين الماضيين من الفائدة التي اقتربت في بعض الدول المتقدمة إلى مستوى الصفر، بل لا تزال على هذا المستوى حتى اليوم في منطقة اليورو، فالفائدة المنخفضة تمثل قوة دفع قوية للنمو المستهدف. ولأن حال الفائدة كان عند حدوده المنخفضة هذه، فقد ارتفعت أسعار المنازل الحقيقية في 38 دولة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 16 في المائة في غضون عامين، فالقروض الرخيصة تزيد من عدد أصحاب عقارات الرهن.
الأمر حاليا لا يحتاج إلى فترة طويلة لرؤية مسار الانخفاض في أسعار المساكن ولا سيما في ساحة الدول المتقدمة، ففي الولايات المتحدة، انخفضت مشتريات الأسرة الواحدة مثلا 17 في المائة في نيسان (أبريل) الماضي، بعد ارتفاع كبير في الشهر الذي سبقه، وهذا تذبذب واضح، يؤكد حقيقة أن الطفرة العقارية بشكل عام دخلت مرحلة التباطؤ الذي لن يتوقف بسرعة، طالما أن استراتيجية رفع الفائدة للسيطرة على التضخم هي الوحيدة المتبعة حاليا من قبل المشرعين الماليين.
ورغم هذا المشهد المضطرب إلا أنه لا بد من الإشارة، إلى أن تراجع أسعار العقارات حاليا وفي مرحلة لاحقة، يدخل أيضا في مسار التصحيح، لأن هذه الأسعار وصلت حقا إلى مستويات مبالغ فيها، خصوصا في دول تتمتع بأسواق عقارية قوية وواسعة وآمنة من حيث الاستثمار فيها. خلال الفترة المقبلة ستتراجع القروض السكنية التي تمنحها البنوك، وسيرتفع مستوى عرض العقارات، خصوصا إذا ما وصلت الفائدة إلى مستويات لا يقوى المقترضون عليها.