«قاف قاتل سين سعيد» .. جريمة تنام في الأدراج

«قاف قاتل سين سعيد» .. جريمة تنام في الأدراج
تجذب الرواية عشاق القصص البوليسية بغرابة أحداثها وتشعب شخصياتها.
«قاف قاتل سين سعيد» .. جريمة تنام في الأدراج
عبدالله البصيص

يأخذ الشر حيزا كبيرا من اهتمام الكتاب والروائيين بصورة عامة، وتنال الجريمة حصة الأسد من متابعة القراء، لما تتضمنه من أسلوب مشوق تتداخل فيه الأحداث والشخصيات، ما يبعد الملل ويحفز القارئ لمتابعة روايته بشغف وتشويق، بحثا عن نهاية قد رسم لها عديدا من الملامح أثناء قراءته، وتكتمل الصورة حين تأتي النهاية خارجة عن أي توقع أو تصور.
عبدالله البصيص الكاتب الكويتي في روايته "قاف قاتل سين سعيد" دخل عالم القصص البوليسية المشوقة من بابه العريض، بعد أن قدم حبكة أدبية، جمعت بين الواقع والخيال، بين الحب والكره، بين المعقول واللامعقول بطريقة بوليسية غريبة، تتداخل فيها مجموعة من العناصر اللافتة، تتناسب ومتغيرات عصرنا الحديث، تجمع بين حقبة التسعينيات وعصرنا الحالي، وتترجم كيف يمكن الاستفادة من التكنولوجيا في توليف الأحداث، وتبرز مدى أهمية الكتابة في إخراج هذا الفائض من الأفكار التي تتملكنا بين الحين والآخر.
تتعدد أبواب الرواية التي تدور حول فلك منزل "أم غريب"، ذاك المنزل القديم المهجور الذي يحمل بين خباياه تفاصيل جريمة قتل، حدثت في غفلة من الزمن، غيرت من حياة وتفاصيل شاب في مقتبل العمر، عاش تجربة غريبة في الشكل والمضمون، غيرت من إيقاع تفاصيله اليومية، وتركت في داخله أسئلة وجودية لا أجوبة لها.
قاف قاتل .. سين سعيد
تدور أحداث الرواية حول شخصية المحقق ماجد، الذي يجد نفسه محاطا بمجموعة من الألغاز والفخاخ وهو يحاول معرفة حقيقة مقتل سعيد جونكر، الأمر الذي يجعله يتخلى عن رتابة تفصيليه يومية، ويبحث في قضية حدثت منذ ثلاثة أعوام، يعود لينبش في الماضي، وينفض الغبار عن جريمة تنام في الأدراج، بعد أن اتفق الجميع على تجاوزها والمضي قدما دون البحث في خباياها.
تبدأ القصة بعد أن تقع بين أيدي المحقق ماجد مجموعة من المستندات والفيديوهات والاعترافات التي تفتح الباب أمام فرضيات جديدة حول هوية القاتل وكيفية ارتكابه جريمته. ولعل ما وجده في منزل "أم غريب" دعاه إلى الشك، ولأن الشك طريقه إلى اليقين، قرر البحث في غموض، أركنه غبار الزمن في ذاكرة النسيان. يقول "اقتحمت عناصر الشرطة بيت أم غريب، ونبشوه، وجدوا هناك، علب سجائرنا، وعصي العراكات، وأدوات تحضير الشاي، وبقايا عود وليد أبوسمر المكسور، وفردة نعل سرعان ما تعرف عليها الأصدقاء، عندما عرضتها الشرطة في المخفر أثناء التحقيق، نعل جونكر".
لماذا أريد فتح القضية؟
في معرض حديثه عن فتح القضية يقول "أخذت ورقة بيضاء لأكتب عن دوافعي لفتح القضية، لماذا أريد فتح قضية قديمة؟ ربما الملل هو السبب، أعرف أسلوب كذب النفس واختلاجاتها لتصديق كذبها.. بدت لي تصوراتي لما جرى متضاربة، سعيد جونكر فتى ضخم مضطرب، في الـ18 أو الـ19 من عمره، فهد كان في الـ14 أو الـ15 عندما اختفى سعيد، وهو صديق سعيد الوحيد، سعيد له أخ معوق اسمه سعد، اختفى أيضا يوم اختفى سعيد. هيا أيتها الخيوط اقتربي بنفسك، هيا.. خرجت جثة فتى ضخم من الأوراق، أشارت في مخيلتي إلى نقاط".
التسجيلات
يعتمد الروائي عبدالله البصيص على أسلوب بوليسي مشوق، ويأخذنا في مشهدية سينمائية من خلال الكتابة، يرسم الأحداث وكأنها صور تمر أمامنا، فيستفز مخيلتك المتعطشة لاكتشاف الحقيقة، في رسم ملامح الأماكن التي يتحدث عنها، والشخصيات التي تدور القصة في فلكها، فتجد نفسك وأنت تقرأ روايته بشغف واندماج، تحركك الكلمة التي كتبها وعبر من خلالها عن وضعية سعيد جونكر، وهو يتحدث أمام كاميراته عما حدث، ويروي تفاصيل أيامه الأخيرة، وقد ركز الكاتب في عرضه 36 تسجيلا، على حركة يد سعيد، وملامح وجهه، وحركة عينيه، ونبرة صوته، وكيفية جلوسه على الأريكة، والملابس التي ارتداها، في محاولة لأخذنا إلى عرض سينمائي متكامل، لكن بتقنية الحرف والكلمة هذه المرة.
"صوت هواء.. وجه محايد.. يتلمظ، ثم ينشق. يبتلع ريقه، ويقول ناظرا إلى ما وراء الكاميرا، كما لو أنه يشاهد أفكاره".
اختفاء سعيد
تكمن حبكة القصة وتشويقها في الطريقة التي يختفي بها سعيد، ويصور عبدالله البصيص الموقف بلغة أدبية منمقة، فيها من السلاسة والجمالية الكثير. "تحرر من الجاذبية بطريقة سهلة، كأنه معتاد عليها.. ابتعد سعيد عنك صاعدا.. رأيته يرتفع عن الأرض وهو ينظر إليك وعلى وجهه ابتسامة من نال مراده، وبعد لحظة ارتفعت معه سعيدة، وشرعت الأضواء تتخللهما، والمطر يبللك، ارتفع وارتفع وارتفع حتى اختفى وراء الغيوم".
العزلة
في هذا الجزء من الرواية يتطرق الروائي إلى جدلية الخير والشر، وكيف يميل الإنسان بالفطرة إلى تصديق الشر وقبوله أكثر من الخير، وكيف تحولنا اليد الخفية المتحكمة في جينات الشر لدينا في توجيهنا إلى طرق لم نفكر يوما في اختيارها، لكن بحثا عن اللامألوف، وإرضاء لرغبة دفينة تفرضها غريزة الإنسان، نجد أنفسنا محكومين بالشر وشركاء في جرائمه دون أن نشعر.
"الناس لديهم استعداد لتصديق حدوث الشر وعدم الاكتراث لأخبار الخير، الأوهام يفرضها الإحساس بالخطر من الشر أكثر تأثيرا من التي تتركها الرغبة بالانتفاع من الخير، حيث يكون التصديق إجراء وقائيا تستدعيه الغريزة لتجنب الضرر المحتمل".
أيام الظلام
"الظلام ليس غياب النور عن المكان، الظلام ليس له علاقة بالنظر".. لا تخلو الرواية من طرح أسئلة وجودية لها علاقة بالعامل النفسي الذي يعكس طبائعنا ويصبغ تحركاتنا في عديد من المواقف، وهنا يبحث الرائي عن جوهر الحقيقة الذي لا تراه العين في النور، وغالبا ما يبرق كوميض سريع في ظلمة حالكة، لينير أفكارا أو يرسم دروبا أو يحدد مسارات، نبني على أساسها تفاصيل مستقبلنا وغدنا البعيد.
فتنة القضية
بعد أن تتجمع الخيوط في يد المحقق ماجد، وتظهر التسجيلات حقائق مخيفة، وتحمل الأوراق اعترافات ومعلومات، تنكشف القضية وتتضح الصورة، وتظهر صورة القاتل غير المتوقع، ما يدفع بالمحقق إلى البحث عن أسئلة أكثر عمقا وصعوبة، خاصة تلك المتعلقة بالشعور بالذنب، وبقدرة المجرم على العودة إلى مكان جريمته بدم بارد وأعصاب جليدية، وكأن شيئا لم يكن، ودون أي إحساس بالذنب.
"الشعور بالذنب هو احتباس حارق، مكون من تفاعل عناصر الخوف والحزن على شيء سيأتي، وأمر مضى، يصهر النفس حتى يتغير شكلها".
تجذب الرواية عشاق القصص البوليسية بغرابة أحداثها، وتشعب شخصياتها، ويأخذنا السرد ذهابا وإيابا بين حقبة التسعينيات والزمن الحاضر، ويتلون كثيرا، مقدما للقارئ رواية مفخخة بالانتظار والدهشة.

الأكثر قراءة