«الروسوفوبيا» .. الثقافة ضحية الحرب
نقيض توقعات بداية الحرب، التي تكون عادة سهلة، يصعب التنبؤ بموعد نهايتها، أو تقدير حجم خسائرها، وكذا تحديد نطاق تداعياتها. بدا ذلك واضحا في الحرب الروسية - الأوكرانية، فاستمرار القتال بشدة على أكثر من جبهة في الميدان، أسقط شظايا النيران على مجالات أبعد ما تكون عن الحرب، حيث يفترض فيها النقيض تماما، من خلال الجنوح إلى السلم، وتشجيع قيم التعايش، ومد جسور التواصل بين الأمم والشعوب.
التحق الحقل الثقافي بقائمة ضحايا الحرب الروسية، بعدما تخطى الصراع حدود الحرب العسكرية نحو معركة واسعة النطاق في المعسكر الغربي، ضد كل ما هو روسي في الثقافة والآداب والفنون.. نجحت قوة الحرب - بمعية سلطة الإعلام والخبراء - في تأليب الرأي العام الغربي ضد روسيا، بتذكية مشاعر الغضب والاحتقان والكراهية لكل ما له صلة بالسوفيات، وشيطنة كل ما هو روسي.
انطلقت "الروسوفوبيا" بإعلان جامعة بيكوكا الإيطالية إلغاء سلسلة محاضرات عن أعمال فيودور دوستوفيسكي الكاتب والروائي الروسي، في تجاهل واضح لمفهوم وروح الجامعة، باعتبارها ميدانا حرا لطرح وتبادل الأفكار والرؤى، حتى لو كانت "محرمة". إن رحى الحرب تفرض الحديث أكثر عن دوستوفيسكي لا منعه. تحديدا بعد 2021، الذي عدته اليونسكو عام عملاق الأدب الروسي، بمناسبة حلول المئوية الثانية لميلاد أديب أضحى جزءا من الأدب والتراث العالميين، فخالدات من تأليفه مثل "الإخوة كارامازوف"، و"الجريمة والعقاب" و"الأبله والشياطين"، نقلت إلى أزيد من 170 لغة حول العالم.
ولم تشفع سيرة ولا مواقف الرجل المعارض لحكام بلاده، وحتى الحكم عليه بالإعدام ثم النفي إلى معسكرات العمل الشاق في سيبيريا، كل ذلك من ملاحقة إرث أدبي إنساني لكاتب ظل وفيا لرسالته الإنسانية حتى بعد موته، حين أوصى بأن يكتب على قبره "الزهور التي ستشتريها عند زيارتك لقبري، لا داعي لها، ولا داعي لأن تبكي فوق رأسي، اشتر طعاما وأعطه حارس قبري".
سرعان ما انتشر الرهاب ضد الثقافة الروسية في أصقاع الحلف الغربي، فأعلن اتحاد كتاب البلطيق استعداء الكتاب الروس، ودعوة الناشرين إلى مقاطعة كتبهم والترويج لها. وأقدمت الأكاديمية الأوروبية للسينما على شطب الأفلام الروسية المرشحة لجائزة السينما الأوروبية. وأسقط اسم يوري جاجارين، أول رائد فضاء روسي، في البرنامج المتعلق بالفضاء، في مهرجان ربيع ولاية كولورادو الأمريكية. وبلغ الأمر في دوقية لوكسمبورج حد إزالة تمثال نصفي لرائد الفضاء، مع أنه متوفى منذ 50 عاما. وحذفت مؤلفات كارل ماركس الفيلسوف الألماني، وليس الروسي يا للغرابة، الذي أضحى مفكرا غير مرغوب فيه، بسبب تداعيات هذه الحرب، من الصفوف الدراسية في جامعة فلوريدا في الولايات المتحدة الأمريكية.
وامتد الأمر إلى رحاب العلوم، بعد أن تدخلت السياسة فأفسدت كل شيء، بعد قرار أهل الاختصاص في "قاعدة بيانات الزواحف" حذف ألف ورقة بحثية روسية من قوائم الأبحاث، رغم اعترافهم بالأهمية العلمية لها. وقررت المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية "سيرن"، نقل مؤتمر علماء الرياضيات العالمي المقرر عقده في مدينة بطرسبورج بعيدا عن روسيا. في المدينة ذاتها، تم إلغاء تنظيم المؤتمر الدولي لعلماء الأنثروبولوجيا وعلم الأعراق. ولم يتوان معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عن إلغاء كل اتفاقياته مع الجامعات الروسية. في وقت تستعد فيه بريطانيا لإصدار تعليمات للجامعات البريطانية التي تتعامل مع العلماء الروس، تمهيدا لقطع العلاقات العلمية.
وصل "الروسوفوبيا" حق الإعلام في ألمانيا الاتحادية معقل الحقوق والحريات، حيث قررت الحكومة منع الشعب الألماني من الوصول إلى قناتي "روسيا اليوم" الألمانية و"سبوتنيك". ثم جاء قرار، يناقض المادة الخامسة في الدستور، بإدراج جريدة "العالم الشاب" (اليونجه فلت) اليسار المستقلة، في التقرير الأمني للمكتب الاتحادي لحماية الدستور، ما يعني حصارا ماليا حول جريدة تحاول أن تكون نشازا، وكل إثمها السعي إلى نقل أصوات المستضعفين في الأرض، بتبني الخطاب الشيوعي.
أفاد تقرير للأمم المتحدة بمناسبة اليوم العالمي للتنوع الثقافي، الذي يصادف 21 أيار (مايو) من كل عام، "أن 4/3 الصراعات الكبرى في العالم ذات أبعاد ثقافية". ما أكد - بلغة الأرقام - أن الثقافة تتحول في ظل الحروب إلى ضحية، وتصبح كلمات المفكرين والأدباء والفنانين خارج السياق العام للأحداث. يذكر أن المنظمة الأممية احتفت باليوم العالمي لأول مرة 2002، مؤكدة "ضرورة تعزيز الإمكانية التي تمثلها الثقافة بوصفها لتحقيق وسيلة الازدهار والتنمية المستدامة والتعايش السلمي على الصعيد العالمي".
يسقط الغرب أمام اختبار القيم مجددا، فبعد فضائح الإعلام في تغطية الحرب في أوكرانيا، لحظة نقلهم معاناة الشعب الأوكراني الذي لا يستحق ذلك لأنه أوروبي، لا من شعوب الشرق الأوسط، تأتي الحرب الثقافية ضد مساهمة الروس في المعرفة الإنسانية، ما يؤكد باليقين القاطع أن الخطابات والشعارات في الأوساط والدوائر الغربية أشبه بالمطاط، قابلة للتمدد والانكماش، وأحيانا حتى الاندثار، بحسب السياق والعائد والمصلحة.
علاوة على افتقاد الموضوعية، فرهاب الثقافة الروسية أزال الحقب التاريخية، معتبرا روسيا كلا واحدا غير قابل للتجزيء، روسيا القيصرية والاتحاد السوفياتي روسيا الحديثة. فيما الحقيقة غير ذلك تماما، فلكل حقبة سمات وخصائص غير التي قبلها أو بعدها، ما يؤثر بشكل أو بآخر في النتائج.. ولنا في حياة وسيرة دوستوفيسكي المعارض المثال الأبرز.
إنه جنون الحرب، التي لا تبقي ولا تذر، فحين تشتعل تأتي على الأخضر واليابس، دون أي تمييز أو مفاضلة، وفي ساحة الوغى تصبح كل الأساليب مباحة، مشروعة كانت أو غير مشروعة، فالحرب جنون، والمجنون بلا عقل.