جول البط وقطعة السردين

سأبدأ بقطعة السردين وهو مصطلح يستخدمه الصيادون القدامى في وصف أسراب السردين التي تتشكل في مجموعات أثناء سلوكها اليومي، دفاعا وحماية لأنفسها من أسماك القرش المفترسة ومن أسراب التونة السريعة. وقطعة استخدام بديع لمجموعة أو سرب يعكس انفصال المجموعة عن المجموعات الأخرى إذ إن أسراب السردين تتكون من مجموعات تتفرق وتجتمع في قطع، ومفردة قطعة أيضا ترمز إلى التوحد والتمازج في كيان واحد، فسرب السردين يتحرك فعليا كقطعة واحدة، من يشاهد برامج عالم البحار وهجرات أسراب السردين يعرف أن السردين معجزة إلهية بديعة.
أما جول البط فهو أيضا من المعجزات التي تثير العلماء باستمرار والجول استخدام قديم في المنطقة لسرب الطيور الذي يزيد على ثلاثة وربما أكثر. تبهر أسراب الطيور المهاجرة في تحركها كل من ينظر إليها، سواء تحدثنا عن المسافات التي يقطعها السرب، أو طريقة تحديد الاتجاه، أو طريقة التواصل بين هذه الأسراب. ومن يركز في جول البط المهاجر أو قطعة السردين سيجد مخزونا من الاستعارات والأمثلة للقيادة والتواصل داخل المجموعة والتركيز على الأهداف والتحرك ككتلة واحدة والقيمة الاستثنائية للسلوك الجماعي المنسق.
يقول جوردان بيترسون وهو عالم نفس ومتحدث ومدرب أثناء وصفه مفهوم القيادة بأنها التأثير الذي يجعل الموظفين مجموعة من الأسهم المدببة التي تراها باتجاه واحد. وهذا وصف بليغ يشمل نقطتين مهمتين، الأول، التركيز والوضوح وهذا استعارة من شكل السهم المدبب، والثاني، مشاركة الجميع للهدف والاتجاه أنفسهما، وهذا استعارة من توجه الأسهم نحو الاتجاه نفسه. لا يقتصر التأثير كمطلب رئيس في رحلة القيادة على خصائص الأسهم أو القطعة والجول لكن حكمة الأسراب فيها كثير من ملامح العملية القيادية ومهمة جدا للانتقال من واقع إلى آخر مختلف.
التقنيات التي تستخدمها الأسماك والطيور في إدارة مجموعاتها مهمة لها، وإذا لم تستخدمها سيتحول تحدي الحياة والبقاء إلى حفرة لا يمكن الخروج منها. انتقال جول البط من قارة إلى أخرى يشكل خطوة مهمة في رحلة التزاوج والتكاثر لهذا الصنف. وتعد أساليب الدفاع الجماعي، والسردين سمكة ضعيفة تعد غذاء رئيسا للأسماك الأخرى، من أهم الطرق التي يستخدمها السردين لاستبقاء عدد كاف من الأمهات اللائي يطرحن البيض ويحافظن على الأجيال الجديدة.
ومثل ذلك تماما مفاهيم وممارسات العمل الجماعي، هي متطلبات مهمة للبقاء، وخطوات لا غنى عنها للانتقال من وضع إلى آخر. السر ليس في ترويج فكرة العمل الجماعي فقط، وإنما في اكتشاف سر العمل الجماعي الأنسب لنا، وهذا يشمل ثلاث نقاط: ما نموذج العمل الجماعي الأفضل لتحقيق الهدف؟ وما آلية تطبيقه؟ وكيف نحافظ على تقنيات التواصل التي تضمن له الاستمرارية حتى تحقيق الغرض المطلوب منه، الحكمة ليست بالسهولة التي يظنها البعض، وتختلف باختلاف الكيان والوحدات التي نتحدث عنها، فسرب البط يتصرف بطريقة مختلفة عن سرب الخفافيش، وأسراب الأسماك الكبيرة "مثل التونة" تنتهج آليات مختلفة عن أسراب السردين. والبيئة لها دورها في التأثير في سلوك السرب، فالسردين الذي يعيش في المحيط أشد تمرسا من السردين الذي يعيش على الشواطئ الضحلة.
لم يكتشف العلماء بعد كل أسرار العمل الجماعي المتقن عند الحيوانات، ما زالوا على سبيل المثال يناقشون نظريات استخدام البط للمجال المغناطيسي لتحديد الاتجاه. ولم يعرفوا بعد كيف تعرف هذه السمكة الصغيرة الضعيفة الضائعة في المحيط موعد ومكان تجمعها الموسمي لتشكل واحدة من أجمل معجزات البحار. لكنهم يعرفون كثيرا من تقنيات التواصل البشري والسلوك التنظيمي وملامح الفرق الناجحة وأسس العمل الجماعي. هناك كثير من التجارب الناجحة والممارسات الإيجابية المعتادة في أساليب عمل الكيانات والمجموعات، يستهين البعض بأهمية هذا الموضوع وربما يضخم حجم ما يعرف وما يتقن من مهارات وأدوات تساعده على تنفيذ دوره المطلوب. هناك كثير من التنسيق المهم الذي لا يحدث، وهناك أدوار مفقودة لا تكتب ولا ينفذها أحد. العمل الجماعي لا ينعكس فقط في كيان لجنة أو فريق أو هيكل تنظيمي متقدم ومعقد. هناك كم هائل من الأسرار المرتبطة بالهدف والأدوات والسياق، وربما المعرفة المختصة بالعمل الجماعي المرتبط بالتجربة الخاصة التي يمارسها الشخص سواء من موقعه كقائد وموجه للمجموعة أو أحد أفرادها الملتزمين بأهدافها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي