الاقتصاد اليوناني .. تحسن غير متوازن على وقع الإصلاحات والتقشف والسياحة بوابة النمو

الاقتصاد اليوناني .. تحسن غير متوازن على وقع الإصلاحات والتقشف والسياحة بوابة النمو
الاقتصاد اليوناني .. تحسن غير متوازن على وقع الإصلاحات والتقشف والسياحة بوابة النمو

قبل عدة أعوام، احتلت الأوضاع المالية والاقتصادية المتدهورة بشكل كبير في اليونان، العناوين الرئيسة لوسائل الإعلام الدولية، خاصة بعد أن أدت سلسلة من الإصلاحات وإجراءات التقشف إلى إفقار المواطنين وفقدان الدخل وخسارة الممتلكات.
وترافق ذلك مع أزمة إنسانية نتيجة معاناة الاقتصاد من "أطول ركود في أي اقتصاد متقدم"، ما أسفر عن زيادة الإقصاء الاجتماعي الذي دفع بمئات الآلاف من اليونانيين المتعلمين إلى مغادرة بلادهم بحثا عن فرص للحياة الكريمة في الخارج.
ولأعوام أيضا ثار جدل كبير حول قدرة اليونان على الخروج من تلك الأزمة، وسادت تكهنات بأن أثينا باتت قاب قوسين أو أدنى من إعلان إفلاسها، والخروج من الاتحاد الأوروبي، والتخلي عن اليورو، والعودة إلى عملتها السابقة الدراخما أقدم عملة في التاريخ ويعود تاريخها إلى 1100 قبل الميلاد، وتخلت عنها اليونان بعد أن اعتمدت اليورو عملة رسمية في 2001.
اليوم تعود اليونان لتحتل هامشا ملحوظا من التقارير الاقتصادية الدولية، ليس بوصفها دولة أزمة، ولكن باعتبارها تجربة لا توصف بعد بالنجاح التام، وسيرها من وجهة نظر بعض الخبراء في الطريق الصحيح للخروج من أزمة المديونية.
بدأت ملامح الأزمة المالية اليونانية في الظهور في 2009 نتيجة الأزمة المالية العالمية، والركود الكبير في الاقتصاد العالمي، والضعف البنيوي في الاقتصاد اليوناني، ونقص المرونة في السياسة النقدية نتيجة لعضويتها في منطقة اليورو، وغياب الشفافية الحكومية حول المستويات الحقيقية للدين الحكومي والعجز المالي، بحيث استيقظ اليونانيون ذات صباح ليجدو أنه تمت زيادة الدين الحكومي من 269 مليار دولار إلى نحو 300 مليار دولار أي أعلى بنسبة 11 في المائة تقريبا مما تم الإبلاغ عنه سابقا.
كان هذا الوضع كفيلا بفقدان الثقة بالاقتصاد اليوناني محليا ودوليا، بما يعنيه ذلك من صعوبة حصولها على مساندة دولية حقيقية دون إعادة النظر في مجمل هيكل الدولة اليونانية ذاتها، إلى الحد الذي دفع بعض الخبراء الدوليين إلى مطالبة الحكومة حينها ببيع بعض الجزر لمستثمرين دوليين للمساعدة على سداد الدين.
الآن وعلى الرغم من أن الوضع الاقتصادي في اليونان لا يزال صعبا، إلا أن التحسينات الملحوظة واضحة للعيان، ومن المرجح أن يستمر الاتجاه الإيجابي هذا العام، خاصة بعد أن سجل الاقتصاد اليوناني انتعاشا سريعا ونموا قويا العام الماضي.
وقال لـ"الاقتصادية" بيتر جون الخبير في الاقتصاد الأوروبي، إن "خفض البنك المركزي اليوناني توقعاته للنمو الاقتصادي هذا العام من 4.8 إلى 3.8 في المائة، ورفع توقعاته لمعدل التضخم إلى 5.2 في المائة، كما خفض النظام المصرفي اليوناني رصيده من القروض المتعثرة إلى 12.8 في المائة من إجمالي محفظة القروض، إلا أن تلك النسبة لا تزال مرتفعة للغاية مقارنة بمتوسط الاتحاد الأوروبي البالغ 2.1 في المائة".
وتابع قائلا "مع هذا من المتوقع أن تستمر اليونان في تسجيل نمو اقتصادي وإن كان بمعدلات أقل، لكن الإصلاحات الجارية والاستثمارات المنفذة في إطار خطة الانتعاش إضافة إلى الزيادة المتوقعة في السياحة والطلب المحلي، ستسهم في إيجاد بيئة اقتصادية مواتية لجذب الاستثمار الأجنبي وتعزيز النمو الاقتصادي، ومع هذا فالحكومة اليونانية في حاجة إلى معالجة المخاطر والتحديات خاصة زيادة التضخم والاستيعاب الفعال لأموال الاتحاد الأوروبي.
تراهن اليونان على استمرار النمو مدفوعا بالاستثمارات الخاصة والعامة، وستستفيد اليونان من التسهيلات المقدمة للعاملين والمقيمين في الخارج خاصة في دول الاتحاد الأوروبي من خلال خطة التعافي الوطني، التي تستمر حتى 2026، حيث ستتضمن تلك الخطة حصول اليونان على نحو 18 مليار يورو في شكل منح و12 مليارا أخرى في شكل قروض، وسيتم تخصيص أغلبية المبلغ لتعزيز التحول الأخضر والرقمي في البلاد.
من جانبه، يعتقد الدكتور روبرت لاشبروك أستاذ مبادئ علم الاقتصاد في جامعة لندن، أن اليونان نجحت في الاستفادة من مجموعة من العوامل الخارجية والداخلية التي مكنتها من استعادة جزء كبير من قدرتها الاقتصادية المهدرة.
وقال لـ"الاقتصادية" إنه "خلال فترة وباء كورونا ونتيجة لحزم الدعم المقدمة من الاتحاد الأوروبي للدول الأعضاء، زادت معدلات الادخار المحلي في اليونان، وهذا يعني أنه بعد الرفع الحالي لقيود الإغلاق، وعودة النشاط الاقتصادي إلى طبيعته، سيزداد الإنفاق الاستهلاكي خلال هذا العام، وسط توقعات حالية بأن تنخفض واردات السلع والخدمات نتيجة التضخم الدولي ما يعني عدم قدرة السلع والخدمات المستوردة على منافسة نظيرتها اليونانية".
وأضاف "يتوقع أن تنخفض الواردات من 8 في المائة العام الماضي إلى 7 في المائة هذا العام، وعلى الرغم من أن الواردات لا تزال أعلى مما كانت عليه قبل تفشي وباء كورونا، فإن الصادرات اليونانية ستحقق نحو 15 في المائة زيادة هذا العام".
واستدرك قائلا إن "التوقعات بازدهار القطاع السياحي الذي يلعب دورا مهما في الاقتصاد اليوناني، سيسهم ليس فقط في زيادة حصيلة اليونان من العملات الأجنبية، وإنما في زيادة التوظيف وخفض البطالة إلى 15 في المائة".
وتظهر الصورة الراهنة أن الإجراءات والتدابير التي اتخذتها الحكومات اليونانية لأعوام أسهمت في تعزيز توقعات إيجابية للاقتصاد في الأمد المتوسط والطويل، وانعكس ذلك في إدراك وكالات التصنيف الائتماني الدولية أن اقتصاد اليونان يستعيد عافيته، وقامت وكالة فيتش وموديز برفع التصنيف الائتماني لليونان إلى "BB" و "Ba3" على التوالي.
وبينما اعتبر بعض الخبراء أن هذا التحسن مكافأة على جدوى برنامج الإصلاح الاقتصادي، فإنه مثل رسالة قوية للأسواق المالية العالمية، إضافة إلى تعزيزه الدور الإيجابي الذي بدأ الاستثمار الأجنبي يقوم به في اليونان. وفي العام الماضي جذبت اليونان استثمارات من شركة مايكروسوفت وأمازون وشركة فايزر للأدوية، ومن المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه هذا العام.
لا ينفي الدكتور ديفيد جاريت الاستشاري السابق في البنك المركزي الأوروبي الذي أشرف في بعض الأوقات على مسار خطط الإصلاح الاقتصادي التي تعهدت الحكومة اليونانية بتطبيقها، بأن الأوضاع في اليونان تتحسن، ولكنه يعده تحسنا غير متوازن ومليئا بالثغرات التي تعني انخفاض الألم الناجم عن المرض الاقتصادي، دون أن تعني اختفاء أسباب وجذور المرض على حد قوله.
ويقول لـ"الاقتصادية" إن "الإنتاج اليوناني تقلص في 2020 بنسبة 9 في المائة، لكنه استعاد أكثر من ثلثي الناتج المحلي المفقود 2021، وذلك على الرغم من أن النشاط الاقتصادي كان مقيدا بسبب إجراءات الإغلاق التي طبقت في الأشهر الستة الأولى من العام الماضي، ويتوقع أن يبلغ الدين العام 190 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام مقارنة بالعام الماضي حيث بلغ 197 في المائة".
وأضاف أن "كل تلك المؤشرات إيجابية ولا شك، وتدل على أن هناك نتائج لعملية الإصلاح، لكن هناك مؤشرات أخرى تدعو للقلق فوفقا لنهج البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية فإنه يضع مجموعة من المؤشرات تعمل على قياس المكانة الاقتصادية للدول وهي مؤلفة من ست صفات مرغوبة لاقتصاد السوق المستدام، وهي التنافسية والشمولية والمرونة والتكامل والاقتصاد الأخضر والحوكمة الجيدة".
وأشار إلى أن وضع اليونان في جميع تلك المؤشرات ضعيف مقارنة بدول الاتحاد الأوروبي الأخرى، وفي مجال الحوكمة تحصل الدولة اليونانية على أدنى درجاتها وأقل من كل دول الاتحاد الأوروبي المدرجة في التحليل، وعلى الرغم من جهود الإصلاح لا تزال اليونان تتمتع بأحد أدنى معدلات التنافسية بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وفقا لمؤشر التنافسية العالمية الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي.
ويرى البعض أن اليونان كان يمكن أن تؤدي أفضل مما قامت به لكن التحديات الخارجية، خاصة ما يعده البعض تهديدا تركيا دائما لها عبر إطلاق اللاجئين للعبور إلى الأراضي اليونانية في طريقهم إلى أوروبا الأمر الذي يضع ضغوطا على الحكومة اليونانية وإنفاقها الاقتصادي، كما أن التساؤل لا يزال قائما: هل كان من الممكن لليونان أن تستعيد قدرتها الاقتصادية دون مساعدة أوروبا؟
ثلاثية الدائنين وهم الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، أخذت عمليا 85 في المائة من الدين الحكومي من أسواق المال ووضعته على أكتاف دافعي الضرائب في أوروبا، ومن دون ذلك كان من المشكوك فيه أن يقف الاقتصاد اليوناني على أقدامه مرة أخرى على الأقل من وجهة نظر البعض.

الأكثر قراءة