الحرب تقصف طريق الاقتصاد الإسباني الممهد للانتعاش .. الضرر الأكبر في القطاع المالي

الحرب تقصف طريق الاقتصاد الإسباني الممهد للانتعاش .. الضرر الأكبر في القطاع المالي

في بداية هذا العام وقبل اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، كانت تقديرات الخبراء بشأن الاقتصاد الإسباني، تشير إلى توقعهم أن يتعافى ويتسارع نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 6 في المائة، على الرغم من خشيتهم من أن يولد وباء كورونا موجات جديدة أكثر عدوى.
لكنهم كانوا أكثر ثقة بأن تلك الموجات الجديدة لن تكون كنظيرتها الأولى، وسيكون لها تأثير محدود في الوضع الصحي في البلاد، وأن الاقتصاد الوطني لن يعود إلى فرض قيود صارمة على النشاط الاقتصادي، بسبب التقدم المحرز في تطعيم الأغلبية العظمى من السكان، إذ تلقى 90 في المائة من السكان فوق سن 12 عاما الجرعات المطلوبة، ما مهد الطريق لانتعاش اقتصادي زادت وتيرته في الربع الثالث من العام الماضي بفضل الانتعاش السياحي.
وكانت الأوضاع جيدة تحدوها درجة عالية من الثقة تجاه الغد، لكن كانت هناك بعض المنغصات، وإن كان يمكن التعامل معها، إذ كانت أوروبا قبل الحرب الروسية - الأوكرانية تعاني أزمة في الطاقة منذ بدايات شتاء 2021، ما أدى إلى ارتفاع حاد في أسعار الطاقة، وخفض ذلك من القوى الشرائية للأسر وضغط على هوامش الأرباح بالنسبة إلى الأنشطة الاقتصادية، مع هذا كانت القناعات السائدة حينها أن تلك أزمة مؤقتة على الرغم من حدتها وسيكون تأثيرها معتدلا بعد الشتاء.
وجاءت الحرب الروسية في أوكرانيا وتغير معها المشهد الاقتصادي العالمي برمته، وكانت أوروبا - بحكم علاقتها الاقتصادية مع روسيا وعقوباتها المفروضة على الاقتصاد الروسي - في مقدمة المتأثرين بتداعيات تلك الحرب، ونالت إسبانيا واقتصادها نصيبهما من كارثة الحرب، إلى الحد الذي دفع ببيدرو سانشيز رئيس الوزراء إلى إعلان خطة بقيمة 17.5 مليار دولار لتخفيف تأثير الحرب في اقتصاد بلاده، بهدف تقديم المساعدة والقروض الحكومية للشركات والأسر، لمواجهة الارتفاع الحاد في تكاليف الطاقة.
من جانبها، قالت لـ"الاقتصادية" الدكتورة جويا بروكس أستاذة التنمية الاقتصادية في جامعة لندن، "إن إسبانيا تأثرت بالعدوان الروسي على أوكرانيا من جانبين، الأول تضرر الاقتصاد الحقيقي نتيجة القيود المفروضة على منتجات الطاقة والمواد الخام والمنتجات الصناعية، أما الضرر الأكبر فكان ذا طبيعة مالية ينبع من التأثير في مستوى الأسعار وأسعار الفائدة، وكان تأثير الجانب الثاني في الاقتصاد الإسباني أكبر بكثير من الأول".
ربما يعود عدم تأثر الاقتصاد الحقيقي الإسباني بالحرب الروسية - الأوكرانية، إلى عدم متانة العلاقات الاقتصادية الإسبانية بروسيا وأوكرانيا على حد سواء.
وعلى سبيل المثال، لا تعتمد إسبانيا كثيرا على مصادر الطاقة الروسية، ففي 2019 حصلت مدريد على أقل من 11 في المائة من وارداتها النفطية من روسيا، و6 في المائة بالنسبة إلى الغاز، أما فيما يتعلق بالسلع الزراعية فإن هناك درجة من الاعتماد الإسباني على أوكرانيا أكثر من روسيا، إذ 38 في المائة من واردات الذرة الإسبانية تأتي من أوكرانيا وربع الشعير وثلث وارداتها من زيت دوار الشمس و10 في المائة من القمح، أما وارداتها من الأسمدة والمعادن الروسية فتعد محدودة.
وباستثناء السياحة، لا تعتمد إسبانيا بشكل كبير على التجارة الروسية في مجال الخدمات، كما لا توجد استثمارات روسية أو أوكرانية كبيرة في إسبانيا، ولا توجد استثمارات إسبانية كبيرة في روسيا أو أوكرانيا على الرغم من وجود 130 شركة إسبانية تعمل في روسيا و30 مثلها في أوكرانيا.
مع هذا فإن تأثير الحرب في الاقتصاد الإسباني في الجانب المالي يظل كبيرا وملحوظا.
وذكر لـ"الاقتصادية" جاك أوليفير الخبير الاستثماري، أن "الصعوبات المالية التي أصابت الاقتصاد الإسباني تعود إلى التداخل القوي بين إسبانيا والاقتصاد الأوروبي، نظرا إلى عضويتها في الاتحاد الأوروبي، كما أن الاقتصاد الإسباني شديد الاندماج في الاقتصاد العالمي، ولذلك أغلب الأضرار التي أصابته ذات طبيعة مالية".
وأضاف أن "التضخم بات ظاهرة عالمية، وارتفعت الأسعار والأجور، وهذا يضعف القدرة التنافسية للاقتصاد الإسباني، وسيكبح الانتعاش الاقتصادي فيها، آخذا في الحسبان أنها كانت متخلفة بعض الشيء عن الركب الأوروبي فيما يتعلق بمعدلات النمو قبل اندلاع الحرب".
من هذا المنطلق أسرعت الحكومة الإسبانية بطرح خطة المساعدة الاقتصادية لتهدئة الاستياء الذي يختمر، بسبب ارتفاع أسعار الطاقة واختناقات العرض الناجمة عن احتجاجات سائقي الشاحنات، ومع هذا فإن أغلب التقديرات تشير إلى أن إسبانيا ستعاني استثمارات أقل في لحظة كان يفترض أن تكون حاسمة بالنسبة إليها في التعافي من أزمة وباء كورونا.
بدوره، يعتقد البروفيسور ستيف بلاك سميث أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة لندن، أن الاقتصاد الإسباني قد يعاني أيضا تبعات الحرب الروسية في أوكرانيا لأسباب غير مباشرة.
وقال سميث لـ"الاقتصادية"، "إنه لا ينبغي أن نغفل آثار هذه الأزمة في بعض الدول الناشئة التي تتعامل معها الشركات الإسبانية بشكل كبير، وأبرزها دول أمريكا اللاتينية وتركيا، في حالة أمريكا اللاتينية يرجع ذلك بشكل خاص إلى أن الاستثمارات الإسبانية مع بعض تلك الدول كبيرة، أما بالنسبة إلى تركيا التي كانت تعاني بالفعل مشكلات مالية قبل الحرب، فإن انعكاسات الحرب عليها كبيرة، ومن المرجح أن يتراجع التبادل التجاري بينها وبين إسبانيا".
تلك التحديات تجلت بشكل واضح في تباطؤ التعافي الاقتصادي في الربع الأول من هذا العام، ما دفع البنك المركزي الإسباني إلى أن يكون أكثر واقعية بشأن تقديراته المستقبلية، فخفض توقعاته للنمو الاقتصادي هذا العام والعام المقبل، بسبب تأثير التضخم الذي ارتفع نتيجة الحرب الروسية، إذ اقترب الشهر الماضي من 10 في المائة، وسط توقعات بأن يصل المعدل إلى 7.5 في المائة في المتوسط بنهاية العام الحالي.
فيما تراجعت توقعات النمو الاقتصادي من 6 في المائة قبل الحرب إلى 4.5 في المائة حاليا، وسيواصل الناتج المحلي الإجمالي تقلصه العام المقبل ليصل إلى 2.9 في المائة فقط، وبذلك فإن إسبانيا لن تصل إلى مستويات إنتاج ما قبل وباء كورونا قبل الربع الثالث من العام المقبل.
هذا الوضع يدفع بعض الاقتصاديين إلى الاعتقاد أن خطة الحكومة للمساعدة الاقتصادية لن تكون كافية، خاصة أن إسبانيا سجلت ثاني أعلى عجز عبر الاتحاد الأوروبي في الربع الثالث من العام الماضي، ويعد رابع أعلى دين إجمالي في دول الاتحاد، كما سجلت أكبر زيادة في نسبة الدين الحكومي بارتفاع 8 في المائة، ما جعلها رابع أعلى نسبة للدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي بين جميع دول الاتحاد الأوروبي.
من ناحيته، أوضح ميلر كوك الخبير المصرفي والمحلل السابق في بنك إنجلترا، أن مستويات الدين الحكومي في جميع أنحاء العالم ارتفعت نتيجة وباء كورونا، وزاد الدين الحكومي العالمي 13 في المائة، ووصل في 2020 إلى رقم قياسي، إذ بلغ 97 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
وأضاف كوك لـ"الاقتصادية"، أن "أغلب التوقعات تشير إلى انخفاض نسبة دين الحكومة الإسبانية إلى 116.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية العام المقبل، مقابل 120 في المائة 2020، وكان يفترض أن يتقلص عجز الحكومة من 11 في المائة 2020 إلى 4.5 في المائة هذا العام".
واستدرك "إلا أن التطورات الاقتصادية الناجمة عن الحرب الروسية في أوكرانيا قد غيرت المشهد نسبيا، وربما لا تفلح الحكومة الإسبانية في تحقيق أهدافها، لكن مع تبني الحكومة إجراءات جديدة للتعامل مع الموقف يمكن لمدريد تحقيق أهدافها، لكن في الأمد المتوسط وليس القصير".

الأكثر قراءة