تجاهل الأدوار الاقتصادية والاجتماعية والأمنية للزراعة تحيُّز غير منطقي
تتكاثر خلال الفترة الماضية الانتقادات الموجهة إلى الدعم الذي تحظى به الزراعة من قبل الدولة، ويذهب بعض الكتاب إلى أن هذا الدعم بات غير ضروري، وأن الأسهل أن نستورد ما نريد من دول العالم، مع المحافظة على الموارد المائية الموجودة حاليا. هنا سمير بن علي قباني يرد على مقال كتبه الدكتور فهد بن جمعة في "الاقتصادية" حول هذا الموضوع. ويبرز قباني الدورين الاجتماعي والاقتصادي للزراعة، ويشرح أوضاع الدعم الزراعي محليا، ومقارنته بما يُدفع في بقية دول العالم.
تتميز مقالات الدكتور فهد بن جمعة بالجرأة في الطرح وعدم التردد في إبداء وجهة النظر المخالفة بشكل مباشر وصريح. وهذا ما لمسناه حتى في اللقاءات والندوات التي يشارك فيها حيث كانت مرئياته الزراعية هي نفسها التي أعرب عنها صراحة في اللقاء الذي جمع عدداً من المسؤولين والمختصين بالزراعة، الذي احتضنته جريدة "الاقتصادية" منذ عدة أسابيع. إلا أنه لا بد أيضاً من التذكير بأن الصراحة لا تعني بالضرورة موافقة الصواب، أو كما المقولة الدارجة "كونك صريح لا يعني أنك صحيح"! آمل من خلال هذا التعقيب على المقال الأخير للدكتور فهد بن جمعة في "الاقتصادية" عدد 4462 بتاريخ 29/12/2005م في صفحة "الرأي"، توضيح بعض المفاهيم عن القطاع الزراعي وارتباطاته المتشعبة اقتصادياً واجتماعياً ومائياً .
أبدأ بأسهلها توضيحاً وهو الأهمية الاجتماعية والاقتصادية وجدواها الغائبة عن الكثيرين. فحينما تبنت المملكة سياسة واضحة منذ عدة عقود بدعم القطاع الزراعي في البلاد وتطويره لجعله جزءاً مهماً من تركيبتها الاقتصادية والاجتماعية وتنوعاً للبنية الاقتصادية، وتوسيع قاعدته الإنتاجية، إضافة إلى تحفيز التوزيع الديموغرافي للسكان في مختلف مناطق المملكة مترامية الأطراف وربط السكان بالقرى والهجر، فإن ذلك كله لم يحدث من فراغ أو نتيجة قرارات ارتجالية لصُناع القرار والمخططين. بل ذلك من أساسيات التخطيط الاستراتيجي ومتطلباته لكثير من الدول المتقدمة والنامية على حد سواء. فالدعم الزراعي أسوة بالدعم الذي تقدمه الدولة للقطاعات الأخرى الصناعية والإنتاجية والتصدير له كثير من المبررات، خاصة في الحالة الزراعية لأثره المباشر اجتماعياً وأمنياً، بل اقتصادياً. الدعم للقطاع الزراعي ليس "بدعة" أو حالة سعودية فريدة، بل هو جزء يسير مما تقدمه دول العالم لأنشطتها الزراعية، ويبلغ إجمالي قيمته 360 مليار دولار سنوياً أو ما يقارب مليار دولار يومياً! بل إن نسبة الدعم المحلي للقطاع الزراعي لمجمل الناتج المحلي الإجمالي لا يمكن مقارنتها بمعظم دول العالم المتقدمة أو النامية على حد سواء. فعلى سبيل المثال يتجاوز الدعم الأمريكي للزراعة 50 مليار دولار سنوياً منها أربعة مليارات دولار لمنتجي القطن فقط. واليابان تقدم مبلغاً ضخماً بحيث يصل الدعم المقدم لمنتجي الأرز فقط إلى ما يزيد على 700 في المائة من تكاليف إنتاجه الذي يؤدي إلى انخفاض الكفاءة في الإنتاج ويحرم استيراده من دول ذات ميزة نسبية كبيرة لإنتاجه في عدة دول مثل الهند وتايلاند!
أما دعم الدول الأوروبية للزراعة، فحدث ولا حرج. فقد بلغ إجمالي قيمته في الاتحاد الأوروبي العام الماضي أكثر من 200 مليار دولار بحسب المفوضية الأوروبية حيث تقاسمت 25 دولة أوروبية هذا الدعم السخي، فحظيت فرنسا بنصيب الأسد بمبلغ إجمالي قدره 9.4 مليار يورو سنوياً. تليها إسبانيا بمبلغ 6.3 مليار يورو، فألمانيا بمبلغ ستة مليارات يورو، فإيطاليا بمبلغ خمسة مليارات يورو، تليها بريطانيا بحجم إعانات زراعية بلغ أربعة مليارات يورو ... إلخ. يا ترى هل فات على اقتصاديي هذه الدول المطالبة بوقف مثل هذا الدعم السخي وتحويله لبناء مستشفيات، كما طالب الدكتور فهد بن جمعة، خاصة أن الخدمات الطبية والمستشفيات في بعض هذه الدول مثل بريطانيا تعتبر مضرب مثل في سوء خدماتها الطبية ورداءة مستشفياتها الحكومية التي يقصدها أغلب المواطنين العاديين الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف الرعاية الطبية الخاصة؟!
لقد أورد الدكتور فهد بن جمعة تحديداً أمثلة على الدعم من واقع إنتاج التمور، وكذلك الدعم لمحصول القمح. فذكر أن 80 في المائة من إنتاج المملكة يتلف لسوء التسويق! فهذا يعني أن المتبقي من الإنتاج السنوي 879 ألف طن، 20 في المائة أي ما يعادل 175800 طن هو ما يتم استهلاكه على مستوى المملكة وسكانها وزوّارها وما يتم إعطاؤه من الدولة كمعونة للخارج! وهذا رقم بالطبع يحتوي إحصائية غير دقيقة تحتاج إثباتاً لتعارضها مع الدراسات الموجودة في الإدارة الزراعية في غرفة الرياض التي تشير إلى أن الاستهلاك المحلي للتمور يبلغ 500 ألف طن، وهو أقرب للدقة وأكثر موضوعية إذا ما تمت مقارنته بسكان المملكة وزوّارها على مدار العام، فيما تشير بيانات وزارة الزراعة الرسمية إلى أن الفاقد من التمور لا يتجاوز 7 في المائة فقط لاغير.
أما في موضوع دعم القمح بشرائه من المزارعين، فيجب التنبيه على أن تكاليف إنتاج الطن على المزارع تصل إلى 70 في المائة من العائد الذي يحصل عليه وهو ألف ريال للطن، وهذه توزع على شريحة تساوي أضعاف أعداد المزارعين الذين يمثلون العاملين في المجالات التجارية الخدمية المساندة المختلفة من توريد مدخلات الإنتاج والنقل والأجور والديزل، وتؤدي إلى رواج وازدهار تجاري واقتصادي في المناطق الزراعية التي تنتج مثل هذا المحصول الاقتصادي المهم (ويستهلك مياها أقل من زراعات الأعلاف التي أغفلها الدكتور) ناهيك عن إسهام الدعم في ثبات أسعار السلع الزراعية على المواطنين خاصة ذوي الدخل المحدود.
السؤال هنا: ما الاستراتيجية البديلة للتعويض عن اقتصاديات دعم مثل هذه المحاصيل الزراعية الأساسية لكل من هذه المدن والهجر التي نشأت على مثل هذا النشاط الزراعي وارتبطت معيشة المواطنين ومَن يعولون، بوجود مزارعين نشطين في هذا المجال الذي اكتسبوا فيه مهارات وتقنيات الزراعة الحديثة خلال عدة عقود من الزمن في ظل عدم وجود روافد بديله اقتصادية تعوضهم بأي حال عن هذا القطاع ؟! عزيزي الباحث، إن التكلفة الاقتصادية التي سوف تترتب على "اختزال" قضية الدعم المحدود للقطاع الزراعي بحسابات مبسطة لفرق تكلفة سعر عالمي مع سعر شراء محلي اعتقاداً بتوفير ما سوف يُستفاد منه لأنشطة أخرى حساب بعيد تماماً عن أي حسابات دقيقة. وأرجو فعلاً إعادة الدراسة جيداً للتكاليف الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي سوف تترتب على وقف النشاط الزراعي الرئيسي أو إحداث تغيير جزئي فيه بدلاً من عمل إعادة هيكلة متكاملة ومدروسة جيداً Agriculture Reform كما يتم حالياً من خلال الاستراتيجية الزراعية للعشرين سنة المقبلة من قبل وزارة الزراعة بالتعاون مع معهد الملك عبد الله للبحوث والدراسات الاستشارية في جامعة الملك سعود، وبالتنسيق مع وزارة المياه، تأخذ بعين الاعتبار الاستخدام الأمثل للموارد المائية والميزة النسبية في زراعة المحاصيل في المناطق وعدم إحداث هزة عنيفة لهذا القطاع تؤدي إلى نتائج سلبية وغير محسوبة النتائج سوف تكون تكاليفها أكبر من حسابات الكثيرين. وحيث لا يتسع المجال لذكر الكثير من التفاصيل، فإنني أهيب بالدكتور فهد، عمل زيارة للهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض والتعرف على التحديات التي تواجه العاصمة الرياض التي بلغ تعداد سكانها خمسة ملايين نسمة تقريباً والعبء الاقتصادي والاجتماعي ومصروفات البنية التحتية التي تحتاج إلى تطوير للسنوات العشر المقبلة إذا ما استمر هذا التضخم السكاني والذي تشكل الهجرة الداخلية إلى العاصمة أكبر تحدياتها. وأرجو أن يضيف إلى ذلك "سيناريو" المساس بالدعم الزراعي (المتعارف عليه دولياً) ليقف على التصور الحقيقي لما يمكن أن تكون عليه هذه التكلفة، مؤكداً له سلفاً أنه سوف يُفاجأ من ضألة حجم الدعم المحلي للقطاع الزراعي مقارنة بما يمكن أن تترتب عليه فقط تكلفة الهجرة الداخلية من القرى والهجر إلى المدن الرئيسة وأولاها العاصمة الرياض.
يسألونك عن المياه؟!
لا أعتقد بوجود أي خلاف على القضايا المائية وأهميتها خاصة في بلد صحراوي مثل المملكة. ولا خلاف عند العاملين في القطاع الزراعي بضرورة بذل الجهد في الاستخدام الأمثل للموارد المائية، ليس فقط لأن ذلك واجب ديني ووطني، ولكن أيضاً لأن المتضرر الأول من استنزاف الثروة المائية سوف يكون المزارعون أنفسهم. ولذلك فإن القطاع الزراعي يزخر بالتجارب والممارسات الناجحة فيما يخص استخدام التقنيات الحديثة لخفض استهلاك مياه الري الزراعي. وهي أكثر من أن يتم حصرها في هذا المقال. ولكن كأمثلة مختصرة، فإن دراسات مائية لدى اللجنة الزراعية في غرفة الرياض قام بها خبراء متعاونون معها في هذه المجال أوضحت تخفيض استهلاك مياه ري النخيل بنسبة تصل إلى أكثر من 65 في المائة عند التحول من الري بالغمر إلى الري بالتنقيط. وتم تبني عدد من الإجراءات لدعم هذا التوجه وأسهمت الشركات في القطاع الزراعي الخاص فعلاً في دعم التوجه نحو ذلك حيث بات مألوفاً أن ترى مشاريع النخيل وهي تستخدم هذا الأسلوب في الري بدلاً من الأسلوب التقليدي. وتطورت أيضاً مشاريع المحاصيل الأخرى باستخدام أسلوب حديث يُعرف بالري تحت السطحي لتوفير المياه، وتم إدخال تقنيات حديثة حتى في مجال "الرشاشات المحورية" لري القمح والأعلاف التي تستطيع قراءة حال الطقس جيداً من درجات الحرارة والرطوبة وغيره، بحيث تُعطي الحاجة المائية المناسبة للمحصول، وأدت مثل هذه التقنيات إلى توفير ما يقارب 50 في المائة مقارنة بالأجهزة الأقدم تقنية، وغير ذلك الكثير من النجاح في هذا المجال.
أما فيما يتعلق بما أورده الدكتور فهد تحديداً في موضوع المياه الجوفية وحجم المخزون الكلي فهما يحتاجان إلى وقفه جدية . فموضوع حال المياه لا يخلو من التعقيد ويتطلب تقييمه أسساً علمية ومعلومات موثقة ومحدثة ومن قبل أهل اختصاص، وليس على معلومة متقادمة سبق تداولها، لو صحت، لكان آخر نقطة ماء قد انتهت منذ عقد من الزمن! ولعل الدكتور فهد يستطيع أن يجيب عن تساؤل المزارعين الذين وقفنا على مزارعهم في العديد من المناطق الزراعية الرئيسة مثل ساجر وتبوك وبسيطة (الجوف) والتي تقوم بزراعة محاصيل مثل القمح منذ أكثر من 12 عاماً ولم نر أي هبوط يُذكر في منسوب المياه! أو لماذا لم تنته المياه الجوفية وتلفظ أنفاسها الأخيرة في أكثر من منطقة على أساس حجم المخزون المائي المقدر سابقاً والمستهلك لاحقاً؟! شخصياً ليس لديّ إجابة وهو ليس اختصاصي. لكن لا أعتقد أنه من سداد الرأي أو التخطيط الاستراتيجي لمستقبل القطاع الزراعي إحداث إعادة هيكلة له قبل الوقوف على حقيقة الوضع المائي. وهذا لا يكون إلا بالاعتماد على دراسات مائية حديثة تأخذ بعين الاعتبار: المعلومة المحدثة، دراسة المعلومة جيداً، تقييم المعلومة ومن ثم تبني استراتيجية عمل وفترة زمنية محددة تأخذ بعين الاعتبار الوضع المائي والاقتصادي والاجتماعي. وهذه خلاصة ما تم الاطلاع عليه وتم تداوله في أكثر من ندوات علمية متخصصة حول القضايا المائية الحديثة برعاية وزارة المياه نفسها منذ إنشاء الوزارة. ولذلك فإن خير ما فعلته وزارة المياه هو تبني هذا النهج العملي بالفعل، حيث تعكف الوزارة بالتعاون مع البنك الدولي بتحديث الدراسات المائية على نحو ما ذكر تمهيداً لإنجاز استراتيجية متكاملة للمياه والتي دعت إليها مشكورة الفاعلين في القطاع الزراعي للاطلاع عليها ومناقشة المشرفين عليها وإبداء المرئيات حيال المرحلة الثانية منها (من ثلاث مراحل) في أكثر من لقاء كان آخره الشهر الماضي في 11/12/2005م.
إذاً أليس من النهج العملي السليم أن ننتظر انتهاء مراحل الخطة كافة في ضوء الدراسات المائية الحديثة ثم نتبنى التوصيات الملائمة خاصة إذا كانت الدراسة الحديثة للتكوينات المائية للطبقات المختلفة لم تنته بعد حيث انتهت لعلمي دراسة طبقة الساق أخيراً من قبل شركة عالمية متخصصة بينما الطبقات الأخرى بصدد التعاقد عليها لدراستها مثل "أم رضمة" وغيرها من التكوينات المائية الأخرى مثل "الوجيد" و"المنجور" وغيرهما؟
وإلى أن يكتمل ذلك المشروع المائي الوطني المهم، يجب أن نحرص على عدم تبني ما يؤدي إلى وضع "العربة أمام الأحصنة" وليس العكس.
- مع تمنياتي للزراعيين بزراعة مستدامة لا إسراف فيها للمياه.
**
عضو اللجنة الزراعية في غرفة الرياض