إفريقيا أكثر المتضررين من تآكل العولمة التجارية .. صدمات موجعة لكورونا والحرب
لما يزيد على قرن من الزمان، تدفقت الاستثمارات الأجنبية المباشرة على القارة الإفريقية، مع تركيز حصري على مجالات محددة، تهدف أساسا إلى استخراج المواد الخام وتصديرها.
لكن منذ مطلع الألفية والمشهد آخذ في التغير، بحيث بات المستثمرون الدوليون يتدفقون على القارة السمراء في كثير من الأحيان بهدف "التصنيع"، وبينما تقلصت تدفقات رأس المال طويلة الآجل في مجال البترول والتعدين، لوحظ زيادة في التدفقات الرأسمالية في مجالات الاتصالات السلكية واللاسلكية وتجارة التجزئة والخدمات.
وخلال الفترة من 2013 إلى 2020 لم تستحوذ الصناعات الاستخراجية على أكثر من نصف الاستثمار الأجنبي المباشر، إلا مرة واحدة.
كان هذا التطور بمنزلة بشرة خير لعديد من الأقطار الإفريقية خاصة البلدان الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، التي بدت تظهر على خريطة الاستثمار العالمي بصفتها مناطق جاذبة للاستثمارات الأجنبية.
وبالطبع، فإن تلك الجاذبية تعود إلى التحسن في مستوى الاستقرار، الذي يسود في القارة منذ بداية التسعينيات ونهاية الحرب الباردة، كما أن كثيرا من الدول الإفريقية تبنت برامج إصلاح اقتصادي وحظيت بقبول دولي.
وفي الواقع، فإن مناخ الاستثمار الجيد الذي شهدته إفريقيا منذ 2000، لم تقف نتائجه عند تعزيز الشعور بالذات وبقدرة بلدان القارة على الاندماج في الاقتصاد العالمي، بصفتهم فاعلين اقتصاديين تتجاوز قدرته المفاهيم التقليدية كمصدر للمواد الخام الأولية.
ولم تكن فوائد عملية الاندماج في الاقتصاد الدولي حصرا على سكان القارة وشعوبها، بل كان بمنزلة اللبنات الأساسية، التي رجح الخبراء أنها ستسهم في جذب مزيد من الاستثمارات النوعية إلى إفريقيا في المستقبل.
لكن القارة السمراء تلقت منذ 2020 ضربتين ثقيلتين أدتا إلى تراجع في النجاحات المحققة سابقا، فالأزمة الاقتصادية العالمية الناجمة عن وباء كورونا، ثم الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها على الاقتصاد الدولي، أدت إلى زيادة خطر تراجع التكامل التجاري بين بلدان العالم، وهو ما يشار إليه حاليا بتآكل العولمة التجارية، وكانت إفريقيا في مقدمة المتضررين من هذا الاتجاه الجديد.
أوجد وباء كورونا سلسلة من الصدمات في جميع أنحاء العالم تتعلق بسلاسل التوريد، وبدأت الشركات والمستثمرون في بعض الاقتصادات المتقدمة في إعطاء الأولوية لجلب الصناعات من آسيا وإفريقيا إلى بلدانها الأم، لتجنب الاضطرابات المستمرة والمستقبلية في سلاسل التوريد وضمان إمدادات ثابتة وموثوقة للسلع.
وبالطبع، فإن التدخل الروسي في أوكرانيا، وتفاقم النقص في مجموعة من السلع الحيوية عزز التفكير العالمي في ضرورة تقليص العولمة والاعتماد على التجارة الدولية.
هذا الاتجاه وعلى الرغم من أنه يهدد الاقتصادات الآسيوية والإفريقية في آن، فإنه أكثر تهديدا لاقتصادات القارة السمراء منه للاقتصاد الآسيوي، الذي قطع شوطا كبيرا في التطور الاقتصادي، مقارنة بإفريقيا، بحيث بات يمكنه الاعتماد على ذاته نسبيا، وهو ما لم يحدث في البلدان الإفريقية بعد.
ويخشى كثير من الخبراء في الشأن الإفريقي أن تهدد النبرة المتزايدة والدعوات المتصاعدة بالتخلي عن العولمة التجارية لمصلحة تشجيع الإنتاج الوطني، إلى زيادة الضغوط على اقتصادات إفريقيا جنوب الصحراء، خاصة أن تلك الدعوات تأتي في وقت تعاني فيه القارة ألما اقتصاديا ناجما عن ارتفاع معدلات التضخم، وتحديدا لمجموعة من السلع الرئيسة في مجال الغذاء أبرزها القمح، وكذلك أسعار الطاقة نتيجة التدخل الروسي في أوكرانيا.
وقال لـ"الاقتصادية" ستيفين متشيل، الخبير في منظمة التجارة العالمية، إن "الاتجاه الراهن الساعي لعكس اتجاه العولمة يمكن أن يدفع 52 مليون شخص إلى هوة الفقر المدقع، وسيكون أولئك الذين يعيشون في إفريقيا جنوب الصحراء الأكثر تضررا، وستصبح إفريقيا مكانا أكثر فقرا، فالتكامل التجاري العالمي الذي تسارع بعد انهيار الاتحاد السوفياتي كان العامل الرئيس لربط الاقتصاد الإفريقي بالاقتصاد العالمي، ومن ثم تحفيز النمو والتنمية في القارة السمراء، وهذا أوجد فرصا لرؤوس الأموال للاستثمار في إفريقيا عبر التخصص في مهام محددة، ما سمح لاقتصادات القارة بالاندماج في أجزاء محددة من سلاسل القيمة العالمية، حتى إن افتقرت اقتصاداتها إلى الميزة التنافسية لإنتاج منتج كامل محليا".
إلا أن بعض الخبراء يرون أن الأمر ليس مرجعه فقط قرارات الدول المتقدمة والشركات الكبرى، وأن الأصوات المتصاعدة في الدول الغنية، التي ترفع الآن شعار عودة الصناعات إلى الوطن الأم في إشارة إلى سحب الصناعات من الاقتصادات الآسيوية والإفريقية وإعادتها إلى البلدان الأوروبية المتقدمة، أو إلى أسواق البلدان المجاورة لأوروبا، تقابل أيضا بما تصفه الدكتورة أنجوم ساسرلا، أستاذة التجارة الدولية في جماعة شفيلد بردة فعل إفريقية ستتشكل من ثلاثة اتجاهات رئيسة.
وذكرت لـ"الاقتصادية" أن "المرحلة المقبلة سنرى فيها إعادة التوازن في العلاقة بين الأسواق وأعني القطاع الخاص والدولة، مع دور أكبر للدولة في إدارة الاقتصاد الوطني، وثانيا إعادة التوازن بين الإفراط في العولمة ونحو مزيد من السيدة الوطنية، وثالثا مرحلة من النمو المنخفض للاقتصاد الإفريقي".
وترى الدكتورة أنجوم ساسرلا أن عملية إعادة تشكيل الإنتاج على المستوى العالمي في مرحلة ما بعد وباء كورونا والتدخل الروسي في أوكرانيا تعني أن التجارة الدولية ستهيمن عليها بضع كتل إقليمية قوية في المستقبل، ومن المحتمل أن تشمل تلك التكتلات كتلة آسيوية تقودها الصين مع تحد متزايد من الهند للدور القيادي الصيني، وكتلة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في أمريكا الشمالية، وكتلة أوروبية بقيادة الاتحاد الأوروبي وتحديدا ألمانيا، بينما ستكون إفريقيا غائبة من التشكيلة الجديدة لعدم اكتمال تجربة النهوض الاقتصادي بها، ولغياب دولة محورية قادرة على قيادة القارة اقتصاديا أو جذبها للأمام".
إلا أن وجهة النظر تلك تلقى معارضة من مجموعة واسعة من الخبراء، الذين يرجحون أن المرحلة المقبلة لاتجاهات الاستثمار العالمي سعي حثيث للحفاظ على وضعية القارة الإفريقية في المنظومة الاقتصادية الدولية، بل إن القارة ربما تصبح ساحة خصبة للتنافس الاقتصادي بين روسيا وخصومها خاصة الاتحاد الأوروبي.
من جانبها، أوضحت لـ"الاقتصادية" الدكتورة ليزا كيستر، أستاذة الجغرافية الاقتصادية في مدرسة لندن للاقتصاد، أنه "لن تنسحب الاستثمارات الدولية من إفريقيا، وإنما ستعيد تشكيل هياكلها الاستثمارية في القارة مرة أخرى، فمغادرتها القارة يعني ترك الساحة لروسيا والصين للاستثمار، وهذا الأمر مستبعد، لكن يمكن لأنماط الاستثمار الغربية في إفريقيا أن تشهد مزيدا من التركيز على قطاعات محددة وأبرزها الطاقة".
وأضافت "قطاع الطاقة في إفريقيا سيكون في حاجة إلى إصلاحات تنظيمية وتحسين للإنتاج، وهناك حاجة إلى بناء مزيد من البنية التحتية، فلا تزال موارد الطاقة في إفريقيا غير مستغلة، وهناك احتياطيات ضخمة لتلبية الطلب المحلي وزيادة الصادرات".
واستدركت قائلة إن "التحولات الجيوسياسية أدت إلى إيجاد أدوار جديدة لإفريقيا، والتحدي الأكبر الذي تواجه أوروبا هو تأمين إمدادات الطاقة، ويمكن أن تكون إفريقيا ذلك المكان".
ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن تنامي التوجهات الاقتصادية المناوئة للعولمة، لا ينفي حرص كثير من الدوائر الاقتصادية الإفريقية على مواصلة المشاركة في سلاسل القيمة العالمية، لأن ذلك يمكن بلدان القارة من الوصول إلى رأس المال والتكنولوجيا والمدخلات اللازمة لتحديث منتجاتها وزيادة تنوعها، كما أن الدخول في سلاسل القيمة العالمية أمر بالغ الأهمية، إذ يضمن نمو الشركات المتوسطة والصغيرة وهي العمود الفقري لعديد من الاقتصادات الإفريقية.
ويعني ذلك كله أن القارة السمراء ستكون خلال المرحلة المقبلة ساحة لمنافسة شرسة، سواء بين روسيا والصين من جانب، حيث يبحث البلدان عن أسواق استثمارية في ظل العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وأوروبا على روسيا، أو الشعور الغربي بالقلق من العملاق الصيني وما يستتبعه ذلك من مساع للتضييق عليه، وبين التحالف الأمريكي الأوروبي من جانب آخر، لكن إفريقيا ستكون أيضا ساحة لصراع غربي داخلي بين التيارات، التي تعادي العولمة التجارية وترى أنها أدت إلى ارتهان البلدان الغربية للاقتصادات الأخرى، وبين التيارات التي ترى أن الحفاظ على سلاسل الإمداد والعولمة التجارية لا يضمن فقط مواصلة الاقتصاد الدولي للنمو، أو يضمن أن إفريقيا ستتفادى الأضرار الناجمة عن فصلها عن سلاسل القيمة العالمية، وإنما الأهم أنه يضمن للغرب البقاء في مقدمة الركب الاقتصادي العالمي.
ويأتي ذلك بالتزامن مع دعوات أنطونيو جوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة إلى تخفيف عبء ديون الدول الإفريقية وزيادة الاستثمار فيها لمساعدة اقتصاداتها على التعافي من جائحة كوفيد - 19 والتغلب على آثار الحرب في أوكرانيا.
وحديث الأمين العام للأمم المتحدة جاء في السنغال، وهي المحطة الأولى في جولة ستتضمن كذلك النيجر ونيجيريا لزيارة المجتمعات المتضررة من النزاعات وتغير المناخ.
وقال جوتيريش إن اضطرابات الإمدادات بسبب التدخل الروسي في أوكرانيا تسببت في أزمات متزامنة في الغذاء والطاقة والتمويل داخل إفريقيا وخارجها.
ودفعت جائحة فيروس كورونا عديدا من البلدان الفقيرة إلى الاستدانة، كما أدت الحرب في أوكرانيا إلى تعطيل تعافيها الاقتصادي، وفقا لصندوق النقد الدولي. وقال الصندوق الأسبوع الماضي إن نسب الدين العام في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء بلغت أعلى مستوياتها فيما يزيد على عقدين.
وقال جوتيريش "يجب على المؤسسات المالية الدولية أن تتخذ على وجه السرعة إجراءات لتخفيف عبء الديون عن طريق زيادة السيولة وتوفير الأموال حتى تتمكن الحكومات من تجنب التخلف عن السداد والاستثمار في شبكات الأمان الاجتماعي والتنمية المستدامة".
وأضاف أن الأمم المتحدة قدمت مقترحات إلى صندوق النقد والبنك الدوليين، فيما يتعلق بجمع الأموال وأدوات تخفيف أعباء الديون، لكن الإجراءات، التي جرى اتخاذها حتى الآن غير كافية.
كما دعا جوتيريش الدول الغنية وشركات الأدوية إلى الإسراع بالتبرع باللقاحات المضادة لكوفيد - 19 والاستثمار في إنتاج اللقاحات محليا، إذ لم يحصل ما يقرب من 80 في المائة من سكان إفريقيا على لقاح حتى الآن.
وقال "بخلاف التطعيم، نرى اختلالات كبيرة فيما يتعلق بالاستثمارات في مرحلة ما بعد التعافي من كوفيد"، مضيفا أنه من المتوقع أن يكون نصيب الفرد من النمو الاقتصادي أقل 75 في المائة في إفريقيا، مقارنة بباقي أنحاء العالم خلال الأعوام الخمسة المقبلة.