الروبل والغاز .. صراع القوة
يعترف مسؤولون أوروبيون بوجود ارتباك متعاظم على صعيد إمدادات الطاقة لعدد كبير من دول الاتحاد الأوروبي، بفعل الإجراءات الأخيرة التي أقدم عليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي نفذ بالفعل تهديداته التي أطلقها في أعقاب اندلاع الحرب في أوكرانيا، فهو يريد أن تدفع الدول المستوردة للطاقة الروسية (نفط وغاز) قيمة الواردات بالروبل الروسي، لأسباب معروفة، تتعلق أساسا بالحفاظ على قيمة هذه العملة التي تعرضت لهزات قوية مع بدء الحرب، إلا أنها عادت إلى مستويتها التي سبقت الحرب.
الاتحاد الأوروبي يرى أن الدفع بالروبل يتجاوز العقود المبرمة مع موسكو بهذا الشأن، إلا أن روسيا ترد بقولها، إن تزويد أوكرانيا بالأسلحة الغربية، ليس إلا خرقا للقانون الدولي. وبعيدا عن هذا الجدل الذي لا ينتهي، أوقفت روسيا إمداداتها من الغاز لكل من بولندا وبلغاريا، فالأولى تعتمد على 45 في المائة من احتياجاتها على الغاز الروسي، وتستورد بلغاريا 90 في المائة من هذه الاحتياجات من المصدر نفسه، وهذه نسب مرتفعة للغاية، خصوصا إذا ما عرفنا أن روسيا تزود أوروبا بأكثر من 40 في المائة من الغاز.
بالطبع لم يقف الاتحاد الأوروبي مكتوف الأيدي، فقد أعلنت المفوضية الأوروبية أن الدول الأعضاء في هذا الاتحاد ستسد نقص الإمدادات لكل من بولندا وبلغاريا، لكن الأمر ليس سهلا كما يبدو للوهلة الأولى، خصوصا إذا ما أقدم الرئيس الروسي على وقف إمدادات بلاده من الطاقة لدولة مثل ألمانيا التي تتمتع بأكبر اقتصاد في القارة الأوروبية قاطبة، يضاف إلى ذلك، أن أوروبا لم تتوصل بعد إلى استراتيجية بديلة سريعة بهذا الخصوص، مع ضرورة الإشارة، إلى أن الإمدادات الأمريكية الإضافية الطارئة للقارة العجوز لم تحدث فرقا يذكر حتى الآن.
العملة الروسية تلقت قوة دفع قوية في الأسابيع الثلاثة الماضية، نتيجة السياسة الجديدة في تصدير الطاقة، علما بأن القوة الأكبر لها أتت من القيود التي فرضها البنك المركزي الروسي في مجال سحب الودائع وشراء العملات الصعبة، والمؤشرات حتى الآن تدل على أن حالة الارتباك على الساحة الأوروبية ستتعاظم، خصوصا مع إقدام أربع شركات أوروبية بالفعل على دفع مشترياتها من الطاقة الروسية بالروبل، في حين فتح عشر شركات من هذه القارة حسابات بهذه العملة.
وحتى شركة "إيني" الإيطالية المعروفة أعربت علنا عن نيتها الدفع بالروبل، على اعتبار أن الخيارات الأخرى غير متاحة بصورة عملية، ولا توجد مؤشرات حقا تدل على ظهور استراتيجية أوروبية بشأن إمدادات الطاقة في وقت قريب، فالبدائل لا تزال بحاجة إلى وقت طويل يراوح في بعض الدول لعام، وفي بعضها الآخر لأعوام متعددة، كألمانيا مثلا.
البنك الدولي يتوقع أن ترتفع أسعار الغاز بمعدل الضعفين قبل نهاية العام الحالي، وهي التي ارتفعت بالفعل سبع مرات عن أسعارها في العام الماضي، نتيجة الحرب في أوكرانيا، بالطبع اتساع رقعة الشركات التي تقبل دفع أثمان وارداتها من الطاقة الروسية، ستمنح الاقتصاد الروسي القدرة لتجاوز العقوبات الغربية الهائلة المفروضة عليه، وهو الذي يعتمد أساسا على هذا النوع من الصادرات.
لكن تظل استدامة هذه القدرة ليست مضمونة، خصوصا إذا ما نجح الأوروبيون في اختصار المسافة الزمنية نحو استراتيجية جديدة لتأمين الطاقة، ورفعوا مستوى الاعتماد على الفحم وزيت الوقود، بصرف النظر عن تعارض ذلك مع تعهداتهم حيال الحفاظ على المناخ، علما بأن أسعار الفحم ارتفعت منذ بدء المواجهة الروسية - الأوكرانية 80 في المائة، وهي أيضا قابلة للزيادة بنسب كبيرة جدا.
المشهد قاتم بالفعل على صعيد الطاقة في أوروبا، وسيظل هكذا حتى تظهر بوادر انفراج مع روسيا، أو تكون البدائل العملية جاهزة قريبا.