الأمن الاقتصادي مكمل ورافد للأمن الفكري

أود بداية الترحيب بالدكتور عبد الرحمن الحميد، وعودته للكتابة في صحيفتنا "الاقتصادية" بعد غيبة طويلة، رغم تبريره ذاك الغياب بعمله على إنجاز كتابه "نظرية المحاسبة"، إلا أن غيابه أثر في رغبتنا في الاستمرار في الكتابة أيضا فهو معلم لنا وقدوة! فهو من طالبنا بالقتال لتحقيق ما نطمح إليه مهما كانت المعوقات أمامنا. ويكفي القول إن بصماته واضحة في كل ما أنجز للمحاسبة في المملكة، فأهلاً وسهلاً بك دكتور نبراساً لنا في مشوارنا لخدمة وطننا جميعاً.
الكل تابع باهتمام مؤتمر الأمن الفكري برعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين، وقد افتتح المؤتمر الأمير نايف بن عبد العزيز النائب الثاني لمجلس الوزراء، وزير الداخلية، ورجل الأمن الأول في المملكة. وقد تكون المؤتمر من أربعة محاور؛ أولها: المفاهيم في ضوء المتغيرات وتأصيل مفهوم الأمن الفكري؛ ثانياً: المعالجات الفكرية والثقافية للأمن الفكري سواء من خلال الأنظمة وثقافة التعبير عن الرأي، والدور الاجتماعي لتحقيق الأمن الفكري في ضوء الشريعة الإسلامية؛ ثالثا: تأصيل المعالجات الشرعية للأمن الفكري من خلال عدد من المحاور، رابعاً وأخيراً: الجهود والمبادرات الشرعية سواء دور العلماء الشرعيين وكبارهم أو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخطبة الجمعة والعيدين وتفعيل دورها، وكذلك المناهج التربوية في تفعيل جهود الرفع من مستويات الأمن الفكري.
يفترض مناقشة نحو 24 ورقة عمل لتغطية تلك المحاور الأربعة التي تحدثنا عنها. كما تابعت باهتمام بعض البرامج الإعلامية التي ناقشت مواضيع المؤتمر بما في ذلك الجانب الثقافي لهذا الموضوع. ومع الأسف، ثمة من لا يزال يزايد بشكل لا يعكس مهنية كافية في التعاطي مع موضوع بهذه الأهمية وبشكل يوحي أن المملكة تتراجع في توجهاتها نحو مزيد من الحرية ومزيد من الانفتاح المنضبط عندما تحدثوا بطريقة أو أخرى! ولهم أقول: أما آن الأوان لتدركوا أن مسألة التحكم والسيطرة "المباشرة" غدت في ذمة التاريخ ولن تعود. وهو نتيجة تطورات وصيرورة عصرية بإمكانيات مختلفة تقنية وفكرية وحتى تنظيمية عالمية عبر مؤسسات المجتمع المدني العابرة للحدود والثقافات أيضا. ومن هنا نبعت فكرة الملتقى التي هي متقدمة على كثير ممن يحتكون به.
المهم أن هذا المؤتمر خطوة مهمة وذكية من كرسي الأمير نايف بن عبد العزيز لدراسات الأمن الفكري الذي قدم تلك المبادرة، وينم ذلك عن منهجية التعاطي مع المشكلات الأمنية بعقلية ذات أبعاد مختلفة وليست بعداً واحداً فقط، وعن قراءة معاصرة للمتغيرات الحالية والمقبلة. وهذا يحسب لمنظمي المؤتمر والفكر القائم على حفظ أمن المملكة. وبالتأكيد سينتج عن ذلك إثراء لأساليب المعالجات العامة لقضية حياة أو موت بالنسبة لنا في المملكة مثلما هي قضية ذات أولوية لكل الأمم. وبطبيعة الحال المسألة أكثر إلحاحاً في العالم الإسلامي! وبطبيعة الحال الفكر هو اللبنة الأولى لكل التطورات التي يمكن لعقل أن يتخيلها على مستوى العالم، فكل ما نعيشه اليوم من "تقدم" أو "تخلف" جاء من فكرة أو خاطرة.
ما لفت اهتمامي وجعلني أعيد قراءة جدول المؤتمر أكثر من مرة وأحاول أن أسترق السمع لعل هناك من يثير عبر وسائل الإعلام بقدر ما شدتني هذه النقطة: إغفال البعد الاقتصادي للأمن الفكري، الذي يحقق بالتالي الأمن الوطني بمفهومه الشامل والعام. الأمن الاقتصادي على المستوى الفردي هو حجر رئيس في التعامل مع الأمن الفكري للأفراد والمجتمعات، وبالتالي للأوطان، خصوصا أنه ومن خلال نظرة عامة للدول المشكلة للعالم اليوم نرى أن التحديات الأمنية تأتي من الدول التي لا تصنف على أنها دول متقدمة اقتصاديا، بل إن الخطر يأتي من الدول الأقل تقدماً ليهدد الدول المتقدمة أيضا. حتى إن مجموعة الدول المشكلة للاقتصاد العالمي اليوم، تساعد الدول الفقيرة بهدف واضح وهو التخلص من شرورها، والحد من تبعات هذا الفقر والمرض وفقدان الأمل في حياة كريمة.
قد يطرح أحدهم فكرة أن رموز الإرهاب اليوم لم يأتوا من مجتمعات أو دول فقيرة! أقول نعم هذا صحيح، ولكن لم يكن لتتحقق رغبات تلك الرموز لولا وجود البيئات التي تجعلهم قادرين عن توظيف من ينفذ أفكارهم سواء كانت هذه الأفكار لأفراد أو منظمات أو حتى حكومات معادية أو عدوة لمجتمع أو دين أو وطن. بطبيعة الحال هذا الكلام لا يقلل بأي حال من الأحوال من كل النقاط التي ناقشها المؤتمر، فهي فعلا في صميم الأمن الفكري وكيفية تحقيقه، ولكن آمل بصراحة أن يكون للبعد الاقتصادي محل في أجندة المسؤولين عن الأمن الفكري بما يحقق معادلات صعبة، ولكن يمكن تحقيقها.

وقد يكون ما حدث لسوق الأسهم خلال السنوات الخمس الماضية 2004 ـ 2008 وقبل وقوع الأزمة المالية العالمية الأخيرة أيلول (سبتمبر) 2008 دلالة على أن هناك تغيرات كبيرة حدثت في تركيبة المجتمع السعودي، أدت في مجملها إلى زعزعة كثير من منجزات عقود من الجهود التي بُذلت لنقل المجتمع من حالة إلى أخرى! الأمر الذي كان وسيكون له تبعات سلبية مختلفة على كثير من شرائح المجتمع وبالذات تلك المتضررة من سوق الأسهم بشكل مباشر، رغم قناعاتي الشخصية أن هناك نسبة كبيرة من اللوم تقع على الأشخاص أنفسهم الذين اندفعوا إلى السوق وكأنهم "طيور النار" التي لا تميز بين النار والضوء. ولتقييم تلك القناعات العامة يمكن قياس تفكير تلك الشريحة من خلال تفاعلها عما يكتب من قبل الإعلام بجميع أنواعه، فهناك نظرة سلبية تجاه كل ما يتم تحقيقه أو إنجازه، ما لم ينعكس مالياً على هؤلاء الأفراد بشكل مباشر، وقد يكون للفكر السابق والتراكمات الثقافية التي رسخت خلال العقود الماضية دور في ثقافة سلبية نحو كثير من العناصر التي يمكن أن تحقق الأمن الفكري للمجتمع بما في ذلك الإيمان المطلق بالأهداف الوطنية، التي يجب أن تترجم إلى أهداف لكل فرد في المجتمع الذي يمثل الوطن.
الخلاصة، بودي لو رأينا بعض الأطروحات الخاصة بالأمن الاقتصادي وتأثير هذا الأمن تحديداً في مناحي الأمن الأخرى، وذلك من خلال أطروحات متخصصة تملك مكنونات الربط بين الأمنيين. اللهم آمنا في أوطاننا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي