أداء الاقتصاد الفرنسي .. ورقة ماكرون أمام منافسيه في السباق إلى «الإليزيه»
بغض النظر عما إذا كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سيفوز بدورة رئاسية جديدة أم لا، وبغض النظر أيضا عما إذا كان سينجح في حسم السباق الرئاسي من الجولة الأولى، أم سيضطر إلى خوض غمار جولة انتخابية ثانية.
الأمر المؤكد أنه يدخل السباق الانتخابي للعودة إلى قصر الإليزيه، والورقة الاقتصادية واحدة من أبرز الأوراق التي يطرحها في وجه منافسيه، على أمل إقناع الناخبين بمنحه خمسة أعوام رئاسية أخرى لإكمال برنامجه الاقتصادي.
بالطبع تعلو الأصوات في فرنسا وتزداد الشكوى من ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، لكن ماكرون وأنصاره يذكرون الناخبين بأن فرنسا لا تقف وحيدة أو تبدو كحالة استثنائية في تلك المشكلة، بل على العكس، فأوضاعها ومستوى الأسعار لديها أفضل بكثير من جيرانها الأوروبيين وحتى على الضفة الأخرى من الأطلسي.
فبينما تعاني المملكة المتحدة والولايات المتحدة وجزء كبير من دول الاتحاد الأوروبي أزمة غلاء المعيشة التي تفاقمت بسبب الحرب الروسية - الأوكرانية، فإن الوضع يبدو مختلفا في فرنسا، بفضل ما يعرف بـ"درع التعريفة"، الذي نجح بمقتضاه الرئيس الفرنسي في السيطرة على التضخم.
في فبراير الماضي بلغ التضخم في فرنسا 3.6 في المائة، لكن بحلول مارس الماضي ارتفع إلى 4.5 في المائة، مع هذا لا يزال معدل ارتفاع الأسعار في فرنسا واحدا من أدنى معدلات ارتفاع الأسعار في الاقتصادات الغربية وأقل بكثير من 6.2 في المائة في المملكة المتحدة و7.3 في المائة في ألمانيا، و9.8 في المائة في إسبانيا و11.9 في المائة في هولندا.
ولـ"الاقتصادية" يعلق إل.بي فيلب الباحث الاقتصادي في شؤون الاتحاد الأوروبي قائلا "جزء من هذا النجاح يعود إلى أن ماكرون استثمر الأموال العامة بذكاء، وجعل بيئة الأعمال أكثر جاذبية سواء للمستثمرين والمؤسسات العاملة في السوق أو للمستثمرين والمؤسسات الجديدة خاصة العاملة في مجال التكنولوجيا، يضاف إلى ذلك أنه في العام الماضي أصدرت الحكومة الفرنسية قرارا تم بمقتضاه الحد من المبلغ الذي يمكن أن ترفع به شركات الطاقة الفرنسية المملوكة للدولة الأسعار على المستهلكين. هذا القرار أسهم في إزالة الضغوط التضخمية على المستهلك وعلى الصناعات التي تعتمد على الغاز والكهرباء، ما أتاح توفير عديد من السلع بأسعار مقبولة نسبيا للمستهلكين".
ويضيف "لكن هذا لا ينفي وجود جوانب قصور نتيجة الارتفاع الكبير والسريع في أسعار الديزل، الذي يعتمد عليه فقراء الريف الفرنسي".
لكن كبح جماح التضخم لا يعد النجاح الوحيد أو الأبرز الذي يشير ماكرون إلى تحقيقه في أعوامه الرئاسية، فبحلول الربع الأخير من العام الماضي عاد معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى ما كان عليه قبل ظهور وباء كورونا، ما يعني أن الاقتصاد الفرنسي ينمو بشكل جيد.
وتشير الأرقام الرسمية التي أعلنت في يناير الماضي، إلى نمو الاقتصاد الفرنسي في 2021 بمعدل سنوي بلغ 7 في المائة، ولا يعد هذا الرقم مرتفعا فحسب، إنما يعد معدل نمو تاريخي لم تشهده فرنسا من 52 عاما، وعلى الرغم من أن توقعات صندوق النقد الدولي تشير إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي الفرنسي بـ3.5 في المائة فقط هذا العام، فإن ذلك لا ينفي قناعة الخبراء بأن فرنسا تعد واحدة من أكثر الاقتصادات ديناميكية في أوروبا.
تقول لـ"الاقتصادية" الدكتورة كريسيدا لويس أستاذة الاقتصاد الكلي في مدرسة لندن للأعمال والتجارة، "فرنسا دولة رائدة في تصدير عدد من المنتجات الرئيسة مثل الأدوية والمعدات العسكرية والسيارات، لكن يلاحظ أن صادرات فرنسا لا تزال أقل من مستواها قبل جائحة كورونا، ويحتمل أن تتراجع الصادرات الفرنسية نتيجة الحرب الروسية - الأوكرانية والعقوبات المفروضة على روسيا، نظرا إلى أن موسكو تشتري نحو 1 في المائة من إجمالي الصادرات الفرنسية".
لكن الدكتورة كريسيدا لويس تعتقد أن فرنسا ستعوض تلك الخسائر من خلال زيادة مبيعات الشركات الفرنسية في الداخل، وهذا سيكون إيجابيا للميزان التجاري الفرنسي، حيث اتسع العجز التجاري أخيرا نتيجة زيادة الواردات عن الصادرات.
وتقول "لكن إذا قمنا بتحليل الاقتصاد الفرنسي فسنجد أداءه استثنائيا في سوق العمل، فحاليا يعمل عدد أكبر من الأشخاص في فرنسا مقارنة بالوضع قبل الوباء".
وفي الواقع، فإن الأداء الجيد في سوق العمل الفرنسية يعد من وجهة نظر البعض الورقة الرابحة التي سيلقي بها ماكرون في وجه خصومه خلال السباق الرئاسي، خاصة عند المقارنة بالوضع في المملكة المتحدة، حيث ترك نحو نصف مليون شخص - معظمهم فوق سن الخمسين - سوق العمل، ما جعل نقص الأيدي العاملة في المملكة المتحدة أكثر حدة منه في فرنسا.
انخفض معدل البطالة الفرنسي إلى 7.4 في المائة في الربع الأخير من العام الماضي، وهو مستوى لم تشهد له فرنسا مثيلا منذ 2008، ما يعطي مؤشرا على أن إصلاحات ماكرون التي جوبهت حينها برفض شعبي عبر مسيرات ومظاهرات عنيفة في قلب العاصمة باريس وعديد من المدن الأخرى قد آتت أكلها.
ومن أبرز تلك الإصلاحات خفض ضريبة الشركات من 33.3 في المائة إلى 25 في المائة فقط، وتغيير قوانين العمل بحيث يحق للشركات التخلص من فائض العمالة، وعلى الرغم من أن ذلك كانت له تكلفة اجتماعية ملحوظة، إلا أنه أضفى حيوية على سوق العمل، وخلال العام الماضي تم إنشاء ما يقرب من مليون شركة في فرنسا.
من جهته، يؤكد لـ"الاقتصادية" جوزيف بنيت الخبير الاستثماري، أنه ربما يبدو للوهلة الأولى رقم مليون شركة مؤثرا في سوق العمل، لكن أغلب تلك الشركات مشاريع صغيرة يعمل فيها موظف واحد فقط أو عدد محدود من الموظفين، لكنها تكشف عن حيوية اقتصادية، حيث إنها تعكس الرغبة في ممارسة أنشطة تجارية.
ويقول "وتتجلى تلك الحيوية في شركات التكنولوجيا الفرنسية التي جمعت العام الماضي رقما قياسيا قدر بـ11.6 مليار يورو بزيادة 115 في المائة مقارنة بـ2020، كما أن الحيوية الاقتصادية تتضح من توليد الاقتصاد الفرنسي 1.2 مليون وظيفة بين 2017 و2021، وقد زادت نسبة الوظائف طويلة الأمد".
مع هذا لا يبدو سجل ماكرون الانتخابي ناصع البياض، فخلال أعوامه الخمسة سيدا للإليزيه، أنفق 2.4 مليار يورو على الاستشاريين، وهي ثغرة يهاجمه منها خصومه بشراسة، ويعملون على اعتبارها دليلا على الإسفاف في الإنفاق، خاصة مع زيادة الدين الوطني الفرنسي من أقل 100 في المائة إلى 115 في المائة خلال عامين فقط، وهذه واحدة من السمات السلبية لفترة حكم ماكرون، وربما يجد المنافسون في تحذيرات محافظ البنك المركزي بأنه "لا يمكن السماح بمزيد من التدهور المالي للاقتصاد الوطني"، شهادة من داخل أروقة الحكم بأن الأوضاع المالية في فرنسا لا تسر.
لورينز جيركي الباحث المالي في بنك إنجلترا لا ينفي ارتفاع مستويات الاقتراض في فرنسا، ويوافق على أنها تضغط على الأداء الاقتصادي عامة.
لكنه يشير لـ"الاقتصادية" إلى أن أغلب الأموال المقترضة استخدمت لإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني، وتحرير الشركات من الضرائب المرتفعة تاريخيا، وزيادة الاستثمار، وتوفير فرص عمل، وجميعها ستؤتي ثمارها إذا نجح ماكرون أو من سيخلفه في مواصلة عملية التجديد القائمة حاليا للاقتصاد الفرنسي.
وفي سياق عملية التجديد الراهن لآليات عمل الاقتصاد الفرنسي، فإن بعض الخبراء يعتقدون أن الإنجاز الأكبر للرئيس الفرنسي سواء فاز في السباق الرئاسي أو لم يفز، يكمن في نجاحه في إيجاد وعي كبير في الشارع الفرنسي بأن تراجع القدرة التصنيعية لفرنسا في العقود الأربعة الماضية، كان أكبر نقاط الضعف التي عاناها الاقتصاد الوطني، لكنه لم يفلح في ترجمة تلك القناعات إلى واقع ملموس.
وقد حان الأوان لعكس هذا الاتجاه، فحصة الصناعة التحويلية في الاقتصاد الفرنسي تتسم بالضعف وتبلغ نحو 10 في المائة فقط من الناتج المحلي الإجمالي، ومع انخفاضها بات لدى الخبراء مؤشر على أن القطاع الصناعي الفرنسي لم يظهر سوى قليل من علامات التحسن خلال الأعوام الخمسة التي قضاها ماكرون سيدا للإليزيه، وذلك على الرغم من التخفيضات والإصلاحات الضريبية التي فرضها.