بعد الجائحة والضغوط الجيوسياسية الحالية .. هل ستنتهي العولمة؟
نادرا ما كان عمال الموانئ في لوس أنجلوس أكثر انشغالا. في (شباط) فبراير، سجل أكبر ميناء في أمريكا أعلى مستوى له على الإطلاق من النشاط في تاريخه الممتد إلى 115 عاما، ما يعكس أحجاما قياسية للتبادل التجاري على مستوى العالم.
مع ذلك، تأتي الزيادة في النشاط في الوقت الذي يخشى فيه صناع السياسات والاقتصاديون والمستثمرون من أن العولمة ربما تكون قد بلغت ذروتها بعد 30 عاما من النمو. حتى إن البعض يتوقع أن تشهد أحجام التبادل التجاري تراجعا حادا مع زيادة حدة الخلافات بين الدول الرائدة بعد الأزمة في أوكرانيا وسعي الشركات لبناء مزيد من المرونة في سلاسل الإمداد العالمية.
لن تكون هذه هي المرة الأولى التي تؤدي فيها الأزمة إلى تغييرات كبيرة في أنماط التبادل التجاري. تباطأ نمو التجارة بشكل حاد بعد الأزمة المالية العالمية في 2008-2009، حيث تحول من ارتفاع يقارب ضعف سرعة الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى معدل مماثل. هناك حقبة سابقة من العولمة، مرتبطة بالثورة الصناعية ومدعومة بنظام عملة الذهب القياسية، تم إخمادها من قبل الحرب العالمية الأولى. لم تعد حصة التبادل التجاري من الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى مستواها في 1914 حتى منتصف السبعينيات.
يتمثل التحدي الذي يواجه مؤيدي العولمة في تحديد حجم التراجع المحتمل، بما في ذلك التأثير في المنافسة وسلاسل الإمداد والضرر الذي يلحق بالاقتصادات النامية.
من المتوقع أن تؤدي الضغوط الجيوسياسية إلى تحول كبير نحو تفكك العولمة، مع تعزيز التجارة حيث ينظر إلى الدول التي تتعافى من الجائحة على أنها احتفال أخير قبل إقامة حواجز جديدة.
قال لاري فينك، الرئيس التنفيذي لشركة بلاك روك لإدارة الأصول التي تبلغ قيمتها عشرة تريليونات دولار، إن الصراع في أوكرانيا "وضع حدا للعولمة التي شهدناها خلال العقود الثلاثة الماضية". أضاف أن الشركات والحكومات ستبحث بجدية في اعتمادها على الدول الأخرى وتسعى إلى "تكثيف عملياتها البرية أو القريبة من الشاطئ".
قال شاميك دهار، كبير الخبراء الاقتصاديين في "بي إن واي ميلون إنفستمنت مانجمنت"، إن أنماط التجارة ستتشكل من خلال عودة سياسات القوة العظمى وانتشار التكتلات التجارية الودية.
قال دهار حتى لو كانت الأزمة في أوكرانيا قصيرة الأمد نسبيا، "فإن الهيكل الاقتصادي الدولي الحالي هامشي بشكل متزايد بالنسبة مشكلات الاقتصاد السياسي الكبيرة"، مع احتمال قيام الحكومات في المستقبل "بتعزيز المصالح الأمنية على حساب الميزة النسبية".
قال إريك نيلسن، المستشار الاقتصادي في "يوني كريدت"، هذا أمر لا مفر منه. "نحن نتجه إلى فترة طويلة من تفكك العولمة"، وهي عملية من شأنها أن ترفع تكاليف وأسعار السلع والخدمات.
كان المسؤولون الماليون عموما أكثر حذرا في تحذيراتهم، لكن أندرو بيلي، محافظ بنك إنجلترا، قال الأسبوع الماضي إن العالم كان في "مرحلة أكثر صعوبة" من حيث تجزؤ التجارة عما كانت عليه في وقت الأزمة المالية العالمية، عندما تجنبت الدول إلى حد كبير فرض تعريفات جديدة أو تدابير أخرى.
أظهر أحدث البيانات العالمية الصادرة عن مكتب تحليل السياسات الاقتصادية الهولندي أنه رغم حالات الانخفاض في أحجام التبادل التجاري في الصين والاقتصادات الناشئة في كانون الثاني (يناير)، حيث تضررت الواردات بارتفاع الأسعار، إلا أن أحجام التبادل التجاري العالمي الإجمالية وصلت إلى مستوى قياسي، أعلى 9 في المائة تقريبا من مستويات ما قبل الجائحة في كانون الأول (ديسمبر) 2019.
المؤشرات الأخرى لا تزال قوية. انخفضت معدلات شحن الحاويات منذ الأزمة في أوكرانيا، لكنها لا تزال ضعف المستويات التي كانت عليها قبل عام تقريبا، أبلغت الموانئ في كل منطقة عن مستويات عالية من الأعمال والاختناقات اللوجستية الكبيرة.
قال نجوزي أوكونجو إيويالا، رئيس منظمة التجارة العالمية، لـ "فاينانشيال تايمز": "الأمر ليس مجرد ازدحام في الموانئ. إنها مشكلات على البر (...) ليس لدينا ما يكفي من المستودعات، وليس لدينا ما يكفي من سائقي الشاحنات"، مضيفا أن المشكلات مع سلاسل الإمداد ستستمر لبعض الوقت.
الطلب القوي وأسعار الشحن المرتفعة وفرض مزيد من التعريفات أو العقوبات التأديبية وسط الصراع في أوكرانيا يشجع الشركات والدول على إعطاء الأولوية للمرونة على الكفاءة. كافح نموذج التصنيع في الوقت المناسب أحيانا لاجتياز الاختبار الذي فرضته الأزمات المالية والكوارث الطبيعية والجائحة والآن أزمة كبيرة.
قال آدم بوزن، رئيس معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، إن المستوردين سيواجهون مزيدا من القيود التجارية، غالبا من الحكومات الشعبوية التي تسعى إلى تعزيز طموحاتها المحلية.
تشير خطوة الغرب لمنع روسيا من الوصول إلى احتياطاتها من العملات الأجنبية إلى أنه ليس من الآمن أن تحتفظ الدول باحتياطيات بالدولار إذا اعتقدت أنها قد تواجه عقوبات أمريكية في يوم من الأيام. قالت جوانا تشوا، رئيسة اقتصادات آسيا في "سيتي جروب": "استخدام العقوبات سيزيد الطلب على إزالة الدولرة" ما يمنح الصين حافزا لتدويل استخدام الرنمينبي من أجل الحصول على شركاء تجاريين.
يقول منتقدوها إن العولمة تكلف الوظائف في العالم المتقدم وتزيد عدم المساواة في كل من الدول الغنية والفقيرة. لكن معظم الأدلة تشير إلى أن التكنولوجيا الأفضل، وليس التجارة، التي أدت إلى انخفاض فرص العمل في التصنيع، حيث تمكنت العولمة من رفع الكفاءة والإنتاجية.
كان الفائزون الأكبر في الـ 30 عاما الماضية هم الاقتصادات الناشئة التي اندمجت في الاقتصاد العالمي ورفعت مستويات المعيشة. وفقا لأرقام صندوق النقد الدولي، حققت الاقتصادات الناشئة 60 في المائة من النمو العالمي في الأعوام الأخيرة، مقارنة بـ 40 في المائة في أوائل الثمانينيات.
انخفضت معدلات الفقر المدقع بشكل كبير، لا سيما في الدول الآسيوية التي أصبحت جزءا من الاقتصاد العالمي. انخفض عدد الأشخاص المصنفين على أنهم يعيشون في فقر مدقع من 1.9 مليار في 1990 إلى 650 مليون في 2018، وفقا للبنك الدولي.
خسر العمال ذوو الدخل المنخفض في الاقتصادات المتقدمة بسبب المنافسة الأكبر، رغم أنه في المقابل انخفضت أسعار السلع والخدمات.
قال بوزين إن تفكيك العولمة من شأنه أن يقلل كفاءة الشركات من خلال رفع الأسعار وخفض المنافسة. كتب في مجلة فورين أفيرز أن الدول الأكثر فقرا ستتضرر أيضا حيث تمتنع الشركات متعددة الجنسيات عن "الاستثمار في الأماكن التي يرون أنها تتمتع بشفافية لا يمكن الاعتماد عليها".
مع توقع أي تراجع يؤدي إلى إبطاء النمو، قال نيلسن من "يوني كريدت" إن العالم بعد تفكيك العولمة سيكون "أدنى بكثير" من الـ 30 عاما الماضية من التجارة المفتوحة.