أزمات مركبة واختلالات اقتصادية
يمكن القول بمزيد من الثقة إن هناك تفاعلا بين الآثار الاقتصادية الناتجة عن انتشار فيروس كورونا والآثار الناشئة عن الحرب الروسية - الأوكرانية، ما أدى إلى نقص متزامن في الأيدي العاملة الماهرة، وفي المواد الخام، وهذا النقص يرجع إلى عدة أمور من بينها مشكلات سلاسل الإمداد، والتحولات في بيئة العمل التي أفرزتها فترات انتشار فيروس كورونا، وكذلك قيود السفر التي لم تزل سارية حتى الآن على كثير من دول العالم.
ففي عدة تقارير نشرتها "الاقتصادية" منذ اندلاع النزاع بين روسيا وأوكرانيا تبين أن هناك تصاعدا مستمرا للأزمة الاقتصادية نتيجة الحرب الجانبية بين الاتحاد الأوروبي وبين روسيا اقتصاديا، فقد حذرت شركات ألمانية عملاقة من وقوع أضرار اقتصادية غير مسبوقة حال استمرار حظر واردات الطاقة من روسيا أو غيابها لفترة طويلة، وذهب بعض الرؤساء التنفيذيين لهذه الشركات بعيدا بوصفهم هذه الحالة الراهنة بأنها قد تعني إيذانا بدخول الاقتصاد الألماني في أسوأ أزمة له منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فحظر الواردات الروسية قد يقود إلى خفض في الإنتاج وفي سلسلة القيمة، وبالتالي سلسلة توريد السلع اليومية من الغذاء إلى الأدوية، ومع وجود مساعدات مالية من الحكومات الغربية لشركاتها في مواجهة هذه الأزمة إلا أن عواقب نقص الغاز – كما يشير بعض الرؤساء التنفيذيين - لا يمكن تعويضها بالإعانات أو المساعدات المالية، فالأبعاد أكبر بكثير مما كانت عليه عند اندلاع جائحة كورونا.
هذه الأبعاد بدأت تظهر بشكل جلي في 80 في المائة من الشركات الألمانية، التي تواجه اختناقات ومشكلات متعلقة بشراء المنتجات الأولية والمواد الخام، وذلك حسب رصده لمعهد "إيفو" الألماني للبحوث الاقتصادية وقد كانت نسبة الشركات التي ذكرت ذلك في شباط (فبراير) 74.6 في المائة قبل اندلاع الحرب، فالأثر التراكمي واضح منذ الأزمة الصحية وتصاعد الأحداث مع الحرب.
وفي جانب الأيدي العاملة المتخصصة، فإن التقارير الاقتصادية العالمية، خاصة في أوروبا تشير إلى تزايد مستمر في صعوبات البحث عن العمال المتخصصين، سواء كان هؤلاء متخصصين في تكنولوجيا المعلومات أو خبراء تسويق أو المحاسبة، ففي نتائج استطلاع أجرته الرابطة الاتحادية للشركات الألمانية الناشئة، فإن أكثر من نصف الشركات الناشئة تعد النقص في الأشخاص المؤهلين مشكلة كبيرة، أو كبيرة جدا، تهدد مستقبلها، وأن هذه المشكلة في تصاعد مستمر ووصلت هذه النسبة إلى 85 في المائة، بين الشركات التي لا يقل عدد العاملين فيها عن 25 شخصا، هذا النقص الكبير كما تصفه التقارير يؤدي إلى إعاقة النمو وتلاشي القدرات الابتكارية.
تعود الأسباب لهذا التراجع في أعداد العمال المتخصصين إلى عوامل نشأت مع الأزمة الصحية فالتنقل بين دول العالم لا يزال يواجه قيودا كبيرة نتيجة الإجراءات الاحترازية ومتطلبات اللقاحات، التي تختلف من دولة إلى أخرى بشكل جذري، فمثلا في ألمانيا لم تزل القيود مفروضة في الدخول للمحال التجارية عملا بقاعدة "2 جي"، وهي القاعدة التي تقصر الدخول على الملقحين والمتعافين فقط.
وهذه الإجراءات غيرت بشكل كبير من مسارات الحصول على التأشيرات، فالوقت الذي كان يستغرق فيه منح التأشيرة لألمانيا ثلاثة أشهر في المتوسط قد امتد الآن لنحو ثمانية أشهر، لكن ليست المشكلة فقط في التأشيرات وقيود السفر ذلك أن عددا من دول الاتحاد الأوروبي قد حسن كثيرا من هذه الإجراءات، وقلص وقت الحصول على التأشيرات إلى نحو 10 و30 يوما، لكن مع ذلك، فإن قدرة الفوز بالعمالة المتخصصة تتضاءل أمام الشركات الناشئة والسبب يعود في جزء منه إلى تغيرات أساليب العمل والتحول نحو العمل المرن أو العمل عن بعد.
كما أن دخول التقنية في الأعمال بتسارع كبير بعد أزمة كورونا عزز من الطلب على المتخصصين المدربين بشكل جيد، ذلك أن النقص الكبير في هذه العمالة لم يسهم في معالجة البطالة بشكل كبير، فلم ينخفض مؤشر البطالة في ألمانيا إلا بمقدار 0.2 في المائة، ليصل إلى 5.1 في المائة.
في مقابل هذا التزامن الواسع بين الآثار الاقتصادية للحرب على سلاسل الإمدادات، خصوصا واستمرار قيود الحركة على العمال والحركة التجارية عموما بسبب استمرار العمل بالإجراءات الاحترازية الصحية، فإن المخاطر قائمة بشأن تحقيق مزيد من التنمية الاقتصادية، وقد بين المجلس الألماني لخبراء الاقتصاد، أنه يتوقع نموا في الناتج المحلي الإجمالي 1.8 في المائة فقط على أساس سنوي، مقارنة بتوقعات سابقة أشارت إلى نمو 4.6 في المائة، وفي الوقت نفسه يمكن أن يصل التضخم إلى 1 في المائة في ألمانيا وحدها، وهي مستويات لم تسجل منذ عقود، كما أن تزامن الآثار الاقتصادية للحرب والأزمة الصحية أدى أيضا إلى استمرار ارتفاع الديون السيادية، نظرا لاستمرار حاجة الشركات الناشئة عموما للدعم في مواجهة كورونا، إضافة إلى المساعدات الناشئة عن حظر واردات الطاقة من روسيا وتعطل الواردات من أوكرانيا، ومن النادر أن يواجه الاقتصاد العالمي والأوروبي خاصة أزمة مركبة مثل هذه، ولذلك فإن احتمالات طول الحرب قد تلقي بظلال قاتمة جدا على الشركات الناشئة في المدى القصير ومن ثم انتقال الأزمة من الركود إلى الكساد.