مسرح بنشدرانك الغامر يعود ليروي حكاية ملحمية عن طروادة
أقف على عتبة مدينة طروادة. في هذه الردهة الكبيرة التي تصدر الصدى لأي صوت، أسمع أنينا منخفضا نتيجة أعمال الحفر وأشتم رائحة قوية لطلاء الأكريليك. يتخطى بعض الرجال كومة من الألواح الخشبية مرتدين خوذات واقية وحاملين معهم سلالم وبكرات من الأسلاك. توجد منصة متنقلة ضخمة بجانب أحد الأبواب حيث علق عليه شخص ما لافتة ورقية متواضعة كتب عليها عبارة "مدخل طروادة" وسهم يشير إلى المكان. ربما ليس هذا ما كان هوميروس يتصوره بالضبط.
لكن هذه هي المدينة التي تم استخدامها في التجسيد الجديد والضخم من قبل شركة بنشدرانك البارعة في المسرح الغامر. هذا العرض الأول للشركة في لندن منذ ثمانية أعوام وأكثرها طموحا حتى الآن، الذي يحمل اسم "ذا بيرنت سيتي" سيأخذ حيزه في مبنيين كبيرين في وولويتش، جنوب شرق لندن، كي تملأها بعالمي مدينة طروادة واليونان، لسرد قصة صراعها المصيري. مع مهارة "بنشدرانك" المعتادة، سيجمع العرض بين النصوص اليونانية القديمة - ولا سيما دراما آغا ممنون للروائي التراجيدي إسخيلوس وهيكوبا لكاتب التراجيديا يوريبيديس - مع أفكار من فيلم متروبوليس للمخرج فريتز لانجز كمصدر للإلهام.
عندما وصلت قبل أسبوع من الافتتاح، كان المكان لا يزال يعج بمزيج من أعمال الإنشاء في المبنى والإعدادات المسرحية. لكن إذا ما ابتعدت عن السقالات والسترات الواقية ستجد نفسك تائها في أحد لفائف عوالم "بنشدرانك" المفعمة بالحيوية. قامت الشركة ببناء سمعتها من خلال عروضها المذهلة مثل "فاوست" و"ذا دراوند مان"، التي كانت تغمر المستودعات المهجورة بالتجهيزات المسرحية شديدة الواقعية التي تسمح للجمهور بالتجول بحرية فيها من أجل لملمة أطراف القصة المسرودة على النحو الذي يختاره الحاضرون. هنا، هذا المزيج من الحيز الهائل، والتشييدات المعقدة واللقاءات تتوزع على أكثر من 100 غرفة في مساحة قدرها 100 ألف قدم مربعة من أجل تشييد مدينتين لإظهار معالمهما بدقة.
أتى التصور الأول لهذا العرض من قبل الشركة قبل أكثر من عقد من الزمان، كما يقول المخرج المشارك فيليكس باريت. يضيف بمرح يغمر تفاؤله وهو يرى جيشا من البنائين الذين ما زالوا يشغلون المكان، "عادة ما يكون الحال أسوأ بكثير من هذا!". لكن حتى تؤتي الجهود ثمارها، كان الأمر يتطلب توافر هذه المباني الضخمة والرائعة المبنية من الطوب - التي من المقرر أن تصبح الموقع الدائم لشركة بنشدرانك - في مجمع رويال آرسنال السابق بمحاذاة نهر التايمز. يقول باريت إن لكلا الموقعين أهميتهما، بسبب إمكانية جمع ذاك التناقض بين الطرفين الرابح والخاسر.
في أحد المباني، تجد مسينا، وهي موطن المنتصرين، مساحة تضم قاعات قاتمة بحجم حظيرة الطائرات، بطرازها المعماري الفخم وطعم الاحتفال. مررت بطاولة كبيرة في دش آرت ديكو "العامل" حيث سيلقى أغا مِمنون مصيره ويبقى قابعا لفترة طويلة في غرفة نوم إيفيجينيا، التي ستصبح مزارا حزينا تملؤها الحلي والألعاب التي تتحدث عن مرارة كليتمنيسترا وغضبها من التضحية التي قدمتها ابنتها.
على النقيض من ذلك، تبدو طروادة وكأنها مدينة تملؤها الحياة، حيث تعج بالأزقة المتوهة، والمتاجر الصغيرة، والفنادق، والحانات الصغيرة وتزينها حبال الغسيل المعلقة. هناك متجر يبيع تماثيل صغيرة وغريبة لها علاقة بالنذور، وحانة تبيع مياها من العالم السفلي وساحة البلدة الكبيرة التي تبدو مألوفة على نحو غامض. تجمع المدينة بين الأسطورة والتفاصيل الرتيبة التي تخدعك، إحدى الغرف مخصصة لتروي قصة نسوة الدنايدز الـ 49 اللاتي قتلن أزواجهن مزينة بجوارب معلقة للتجفيف.
يقول باريت: "اليونان هي المنتصرة. لكن بأي ثمن؟ هذا هو السبب في أن العالم الإغريقي فارغ ومقحل للغاية. هذا الانتصار أجوف لدرجة أن غرف القصر تهتز له. بينما، في عرضنا المسرحي، نروي حكاية مدينة طروادة العظيمة التي تستسلم في نهاية المطاف، لكنها لا تفقد روحها ولا إرادتها. وبطريقة ما يمكن أن تجادل بأنها انتصرت".
يتفق المدير المشارك ومصمم الرقصات ماكسين دويل على أن "اليونان تعطي انطباعا بأنها أكبر وأكثر انفتاحا". يقول، "إنها عملية بشكل أكبر، وهي أكثر صرامة. لكنها محصورة فيما يشبه التوازي مع عشرينيات القرن الماضي، فهي مغبرة وباهتة. وتستشعر في صميمها الفساد والثروة ونوعا من الوحشية".
ليست شركة بنشدرانك وحدها من أعادت سرد قصة سقوط مدينة طروادة في ربيع هذا العام. في أيار (مايو)، جلب المخرج البلجيكي إيفو فان هوف "أيج أوف رايج" إلى المملكة المتحدة، وهي ملحمة مدتها أربع ساعات تستند إلى مأساتي يوريبيديس وأخيليوس. تأتينا قصة الحرب التي دامت عقدا من الزمن من خلال تكرارات لا حصر لها، لكن أيا من هذه الصراعات الحقيقية كانت قد حدثت قبل قرون من ولادة روائيي التراجيديا اليونانيين. لماذا لا تزال هذه الحرب التي حصلت في العصور الغابرة تحتل مثل هذه المكانة البارزة؟
يرى باريت أن مزج الحقيقة والخيال في القصة، الذي يربط المأساة الإنسانية بالتدخلات الخارقة للطبيعة، يعبر عن الجوانب المؤلمة لتلك التجربة في ظل الصراع ويوجد نموذجا يصور الحرب وإرثها القاتم الممتد عبر آلاف الأعوام.
يقول باريت، "هذه الرواية تعد حجر الأساس للمسرح الغربي". أضاف، "يمكنك أن تتعمق فيها وأن تصل إلى مستوى ومن بعده مستوى، تشبه في ذلك التنقيب في موقع أثري إلى حد ما. إننا نحاول دائما اختيار عقدة الرواية التي نشعر من خلالها بألفة متأصلة فينا. وهذا يعني أن بإمكان الجمهور حل لغز المبنى والعرض من بدايته. المباني تمنحنا الفرصة كي نوجد ما هو مألوف وما هو غير مألوف، كي يشعر الجمهور بالارتباط وعدم الارتباط معا.
يضيف باريت أن هناك رغبة ملحة في الابتعاد عن الملحمة الكلاسيكية "للسيوف والصنادل". حتى حصان طروادة الخشبي سيأتي بمظهر متخف، "هذا الوحش العظيم موجود ضمن العرض، لكن ليس بالطريقة التي يتوقعها الجميع. إننا نحاول إيجاد حلم محموم يعتمد على هذه العناصر".
لكن منذ أن بدأت الشركة في التدريبات التحضيرية، اندلعت الأزمة في أوكرانيا. يدرك باريت ودويل مسؤولية الشركة في تصوير هذه القصة. يقول دويل، "قبل حدوث الأزمة، كنا نفكر بالفعل في هذا العمل جزئيا على أنه قداس للحروب، أن يكون عملا يقدم تصويرا لجميع الحروب عوضا عن حرب واحدة فقط". أضاف قائلا، "حينها ستصبح اليونان المكان الذي يدعونا للتذكر والتأمل. هناك بالتأكيد شعور بالخسارة وشعور بأنه لا يوجد منتصر في هذا العالم".
يضيف باريت أن التركيز ليس على الصراع بحد ذاته، بل على خسائره البشرية. في قلب أحداث العرض توجد هيكوبا وكليتمنسترا، وهما ملكتان على طرفي النقيض من بعضهما، لكن كلتيهما تعانيان الحزن، "علمنا منذ البداية أننا أردنا أحد المباني ليتحدث عن الحزن، والخسارة والغياب الذي لا يقترن بشيء الذي يمكن أن تخلفه الحرب، لكن أيضا في مقابل ذلك أردناه لكي نرى مرونة الإرادة وقوتها. هناك فرح وأمل يتضمنه هذا العمل إضافة إلى حزن وشجن شديدين".
لم تكن الجائحة أمرا جيدا للمسرح الغامر، سيتم افتتاح هذا العرض مع الأخذ باحتياطات متعددة. لكن بالنسبة إلى باريت، فهي فرصة للعودة، أخيرا، إلى تلك الإثارة المفعمة بالحيوية في التجربة الحية التي لا يمكن التنبؤ بها، وفرصة لتفقد نفسك لعدة ساعات في عالم القصة القديمة والمتجددة أيضا. يقول، "هدية الجوار والقرب باتت أغلى بكثير لأنها أصبحت نادرة جدا خلال العامين الماضيين. كانت الحياة مهمة بالفعل في العصر الرقمي. لكن الآن، في فترة ما بعد كوفيد، تعد مهمة جدا لأنها تتحدث عن الجوهر المطلق لإنسانيتنا".