أسواق الأسهم في الحروب .. فرص الاستثمار لا تتوقف
منذ آلاف السنين والبشرية تعاني ويلات الحروب، أحيانا بين الدول وأحيان أخرى داخل الدول، ولا يوجد ما يشير إلى تغير الطبيعة البشرية بحيث يتم القضاء على الحروب ويعيش الإنسان في سلام ونعيم. وعلى الرغم من قسوة الحروب وما ينتج عنها من آثار مدمرة على عدة أصعدة إلا أن الحياة اليومية تستمر والاقتصاد لا يتوقف والشركات تواصل أعمالها، بل إن بعضها يزدهر وتنشط أعماله بسبب الحروب. وفي كل الأحوال دائما تعود المياه إلى مجاريها بشكل أسرع مما كان متوقعا.
في هذا التقرير نلقي نظرة على الآثار الاقتصادية للحروب وننظر إلى كيف تتعامل أسواق الأسهم مع الحروب وأين تكمن الفرص المناسبة للاستثمار أثناء وبعد وقوع الحروب.
كيف تأثرت أسواق الأسهم نتيجة القلاقل والحروب؟
وقعت في القرن الماضي عدة أزمات وحروب، بعضها مدمرة وقاسية على الصعيد الإنساني كالحربين العالميتين وحرب فيتنام ولاحقا الحروب في الشرق الأوسط وبعض الدول العربية. وعلى الرغم من ذلك، استمرت الشركات في الإنتاج والعطاء واستمر المستثمرون في البحث عن الفرص الاستثمارية لتنمية رؤوس أموالهم من خلال الدخول في قطاعات جديدة وتنويع الوسائل الاستثمارية.
أحد الدلائل على سرعة تعافي الأسواق من الحروب، بل وعدم اكتراثها أحيانا، أنه منذ بداية الحرب العالمية الثانية إلى نهايتها ارتفع مؤشر داو جونز بنسبة 50 في المائة، بمتوسط نحو 7 في المائة سنويا، هذا على الرغم من اتساع نطاق الحرب وتأثيراتها المدمرة. كذلك حرب الخليج الأولى تعد من الحروب التي كانت نقطة انطلاق لأسواق الأسهم بشكل خاص ولاقتصادات كثير من الدول على وجه العموم. انظر الجدول المرفق لقائمة بعض الحروب والأزمات وكيفية تأثر أسواق الأسهم بها، ممثلة بمؤشر S&P 500، وكم استغرقت من الوقت لتتعافى وتمحو ما لحقها من هبوط.
وفقا لوكالة بلومبيرج، أكبر تأثر لمؤشر S&P 500 كان في أواخر 1941 وتحديدا بعد هجوم البحرية اليابانية على الأسطول الأمريكي في المحيط الهادئ الذي أدى إلى مقتل آلاف الأشخاص وتدمير عشرات السفن، حينها تراجع المؤشر بنسبة 19.8 في المائة، ورغم ذلك وخلال عشرة أشهر تعافى المؤشر من جديد وتجاوز ما كان عليه مع أن الحرب لم تنته إلا بعد ذلك بنحو عامين.
الحروب تخل بالمؤشرات الاقتصادية
السمة الغالبة في جميع الحروب هي أنها تبدأ بطلب مرتفع على السلع الأساسية والغذائية بشكل خاص، وينتج عن ذلك ارتفاع في الحركة الاقتصادية على الرغم من تبعات الحرب، إلا أن هذا الطلب غالبا يكون مؤقتا ومحصورا في سلع معينة ولا يستمر عند المستويات نفسها. ثم تأتي مرحلة الغموض حين لا يعرف اتجاه الحرب ولا كيف ستنتهي ومن ستطول ومن سيسلم منها، وهي حالة انتظار غالبا تتحرك الأسهم فيها باتجاه أفقي إلى أن تتضح الرؤية ويعرف المسار المستقبلي.
عندما تتوقف الحروب القصيرة، سواء بالاستسلام أو السلام أو نتيجة تعب كلا الطرفين، تحدث هناك ربكة اقتصادية نتيجة تغير الأدوار وتغير الطلب وتقلب المؤشرات الاقتصادية، فبين ليلة وضحاها قد لا تحتاج الدول إلى جميع مصانع الأسلحة والمعدات العسكرية والخدمات اللازمة لها، فيحدث تسريح للعمالة وتكون هناك حاجة إلى إعادة تهيئة بعض المصانع لإنتاج سلع مختلفة، ويكون هناك فائض في بعض المواد ونقص في أخرى، وهكذا.
تكاليف خفية للحروب
حتى وإن كانت هناك قطاعات مستفيدة من الحروب وانتعاش في بعض الأنشطة وفي بعض الشركات الصناعية، إلا أن هذا جزء من الأثر، فالأثر الكلي يكمن في الدمار الحقيقي الذي يحدث في الدول المتأثرة بالحروب والتكاليف اللازمة لإعادة الإعمار. أي أنه على الرغم من أن بعض الحروب تنجح في دعم الطلب المحلي لدولة ما، إلا أن ذلك يؤدي إلى تكاليف مضاعفة لدول أخرى، وبالتالي ينخفض الطلب الكلي العالمي، وهذا الرأي يؤيده كتاب "الوهم العظيم" للبريطاني نورمان أنجيل، الذي أشار فيه إلى أن الحروب في القرن الـ20 تؤدي في نهاية الأمر إلى خسائر اقتصادية كان بالإمكان تجنبها.
في ورقة بحثية في مجلة أبحاث السلام في شباط (فبراير) الماضي، في سياق الأثر السلبي للحروب في الناتج الاقتصادي العالمي، ورد ما مفاده أن الاقتصاد العالمي كان من الممكن أن ينمو بنسبة 12 في المائة زيادة على مستوياته التي وصل إليها في 2014 في حال غياب الصراعات في العقود الأربعة السابقة، ما يعني أن الاقتصاد العالمي خلال 44 عاما فقد 12 في المائة من نموه بسبب الحروب. هذه النسبة المفقودة هي صافي ما كان سيبدو عليه العالم دون صراع، منها أن قارة آسيا فقدت الفرصة الأكبر للنمو بسبب الصراعات، في حين أن دول كالعراق وأفغانستان كانت ستتضاعف نواتجها المحلية بحسب المركز الدولي للأمن والتنمية ISDC.
كيف تؤثر الحروب في الاقتصاد؟
التضخم والضرائب
اختلف تأثير الحروب في الأسعار في آخر قرنين مقارنة بالقرون السابقة، ففي الماضي كان هناك تأثير طفيف في الأسعار نتيجة لمحدودية الطلب على الموارد أثناء الحروب، ولكن فيما بعد ومع وجود عملات ورقية والبدء في تمويل تكلفة الحرب عبر إصدار السندات المختلفة، أصبحت الحروب سببا رئيسا في إحداث التضخم، وفقا لدراسة نشرتها مجلة التاريخ الاقتصادي. بدأت الدول في إصدار النقود الورقية لدفع رواتب الجنود وصناعة الأسلحة وسداد المديونية التي خلفتها الحروب، ولمواجهة هذه التكاليف تم فرض العديد من التشريعات الضريبية لضخ المقابل الذي يغطي قيمة هذه النقود المصدرة. على سبيل المثال أثناء الحروب المندلعة في القرن الـ18 في القارة الأمريكية، فرضت ضرائب بقيمة 95 مليون دولار، لكن بالكاد تم تحصيل نصف هذا المبلغ، ويترجم ذلك إلى أن الورق النقدي الذي تم إصداره لم تتم تغطيته بقيمة حقيقية تعادله، ما أدى إلى ارتفاع التضخم، ولم تكن هذه الحالة الوحيدة بل حدث الشيء نفسه في حروب الخلافة النمساوية والحروب النابولية، وكذلك خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. فبالإضافة إلى ارتفاع الإنفاق الحكومي، يؤدي نقص العمالة إلى انخفاض معدلات الإنتاج، وبالتالي ارتفاع معدلات التضخم من جهة أخرى، نتيجة لانخفاض المعروض عن الطلب، لذا فإنه في اقتصاد الحروب لا بد من اتخاذ تدابير وقائية لمواجهة أثر التضخم ليس المحتمل وحسب، بل المفرط الذي قد تضطر الحكومات عنده لطباعة النقود بشكل يائس، وتقنين الأسعار ووضع حدود قصوى للطلب.
أسعار الطاقة ترتفع أثناء الحروب
تصنع الحروب حالة من الطلب غير المستقر في أسعار شتى أنواع السلع، وبالذات تلك التي تحتاج إليها الحروب، ومن أهمها الغاز والنفط. وفقا لمجلة الشؤون الدولية الصادرة عن جامعة كولومبيا، نحو نصف الحروب التي حدثت بين 1973 و 2012 لها روابط متعلقة بالنفط، أشهر هذه الأزمات ما حدث في 1973 عندما ارتفعت أسعار النفط أربعة أضعاف، ليصل سعر البرميل إلى 12 دولارا، وذلك كوسيلة ضغط على الولايات المتحدة لتغير من مواقفها الداعمة للحكومة الإسرائيلية في ذاك الوقت. كذلك أدت أزمة الثورة الإيرانية في 1979 إلى أضرار بالغة في إنتاج النفط الإيراني وبالتالي انخفاض المعروض منه وارتفاع أسعار النفط، كما أن حرب الخليج أدت إلى ارتفاع سعر النفط خلال أربعة أشهر من 21 دولارا قبل الغزو إلى 48 دولارا فيما بعد. وفي الحرب الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا ارتفعت أسعار النفط بشكل سريع وكبير لم نشهده منذ أكثر من عقد من الزمن، كما أن مستويات إنتاج الفحم انخفضت هي الأخرى بسبب اندلاع الحرب.
مستويات الديون تتفاقم بسبب الحروب
أكثر المشاهد ارتباطا بالحروب هو حجم الديون الهائل الذي تتكبده الدول، حيث تزداد مستويات الإقراض أكثر من المعتاد سواء على المستوى الصناعي لدعم الصناعة الحربية أو على مستوى الدول لدعم الحكومات في حروبها. وفقا لقاعدة بيانات البنك الدولي، قبل الحرب العالمية الأولى وتحديدا الفترة من 1880 إلى 1913 انخفضت الديون العالمية بنسبة 29 في المائة، ولكن مع دخول الحرب العالمية الأولى ارتفع الدين من جديد بنسبة 23 في المائة، وحدها بريطانيا وهي نقطة ارتكاز أساسية في الحروب العالمية، ارتفعت ديونها 150 في المائة خلال الحرب العالمية الثانية، وحتى مع انتهاء الحرب وإلى مطلع الخمسينيات ارتفعت الديون بنحو 240 في المائة، نتيجة لإعادة الإعمار والعودة إلى حالة ما قبل الحرب، في حين أن مستويات الديون الأمريكية وصلت إلى ذروتها بنسبة 106 في المائة من الناتج المحلي.
البطالة
لا جدال أن الحروب تؤدي في بداياتها إلى زيادة المعروض من الوظائف، نتيجة للآلة الصناعية الضخمة التي تغذي الجيوش من معدات وأسلحة وتقنيات، ولا سيما أنها تحتاج إلى الإنتاج بمستويات أعلى بكثير من حالات السلم، إضافة إلى النقص الحاصل في العمالة والموظفين نتيجة استخدامهم في الجيوش كمحاربين. وعلى الرغم من ذلك هناك جوانب سلبية لهذا الطلب العالي على التوظيف منها أن السرعة التوظيفية ينتج عنها خفض في الجودة، فالموظفين الجدد الذين يتم دمجهم لا يكونون غالبا بالمهارات والخبرات المطلوبة. أما الخطر الأكبر فيكمن في نهاية الحروب التي تخلف وراءها كما هائلا من الجنود المسرحين الذين تم استبدالهم بآخرين في المصانع والشركات، ما يصنع بطالة مؤكدة، وانخفاضا حادا في الأجور نتيجة لزيادة العرض على الطلب.
التجارة
تؤدي الحرب إلى تغيرات في السياسات المالية والتدفقات التجارية، تؤثر في مجملها في العالم ككل سواء المناطق المتنازعة أو غير المتنازعة، وتتأثر التجارة الدولية بشكل مباشر بسبب الحروب كفرض حظر المرور على المضايق والممرات البحرية والطيران، أو بشكل غير مباشر عندما تستبدل دولة إنتاج السلع الأساسية بالسلع الحربية، وبالتالي انخفاض أو انقطاع تصديرها من السلع الأساسية للدول التي تحتاج إليها. وقد تكون هذه السلع جزئية من سلع أكبر كأشباه الموصلات، وبالتالي تنتج عن ذلك سلسلة متتالية من الأحداث تنقطع معها العملية التجارية بشكل شبه كامل! وقد تحدث السلسلة نفسها ولكن مع اختلاف بدايتها، عبر استغناء دولة ما عن استيراد العديد من السلع ما يوقف العملية التجارية في نهاية المطاف. على سبيل المثال أدت الحرب العالمية الأولى إلى تراجع حجم الإنتاج الزراعي والصناعي في عدد من الدول نتيجة لعدم توافر الإمدادات من آلات أو للتحول إلى صناعات وزراعات بديلة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الأساسية.
الأثر التكنولوجي والعلمي
من المؤكد أن الحروب، والنشاطات العسكرية على وجه العموم، تؤدي إلى رفع مستويات التقدم التقني والعلمي، فالكثير من الاختراعات والابتكارات كالمحركات النفاثة والرادارات وأجهزة الكمبيوتر، تم تطويرها بسبب الحروب أو في سبيل التسلح ورفع القدرات العسكرية. بعض هذه الابتكارات تمت الاستفادة منها في مجالات حيوية وإنسانية مفيدة والبعض للأسف تم استخدامها في خضم الحروب والنزاعات، منها القنبلة الذرية والأسلحة النووية والهيدروجينية التي لا يزال هناك من يعاني آثارها السيئة إلى يومنا هذا.
قد نستطيع تقدير التكاليف الاقتصادية وحسابها بعدة معايير مختلفة، إلا أن التكاليف البشرية والنفسية لا تقدر ولا تعوض، فما لا يقل عن 108 ملايين شخص لقوا حتفهم بسبب حروب القرن الـ20 فقط، وتقدر عدد وفيات الحروب عبر التاريخ بنحو مليار شخص، وفقا لـصحيفة نيويورك تايمز، ناهيك عن عشرات الملايين من المصابين وحالات التشرد والاغتصاب والتعذيب وجرائم الحروب التي لا تعد ولا تحصى.
أين يلجأ المستثمرون نتيجة الحروب؟
كما أن لدى أسواق الأسهم القدرة على التنبؤ بالحالة الاقتصادية قبل حدوثها، فهي كذلك لديها القدرة على التنبؤ بمسار الحروب وما ستؤول إليه فيما يخص تأثيراتها الاقتصادية. فمن المعروف أنه بسبب جيوش المحللين والمهتمين والمتابعين للأسواق المالية فإنه تتولد هناك قدرات عجيبة لاستشراف المستقبل تتم ترجمتها في أسعار الأسهم والسلع وغيرها من أصول مالية. كذلك الحال في أوقات الحروب، حيث نجد أن أسواق الأسهم تتجاوب بشكل سريع مع أي تطورات تتم على الصعيد السياسي، منذ بدء المناوشات بين الأطراف المتنازعة إلى اندلاع النزاع، مرورا بمراحله المتعددة إلى انتهائه، وفي جميع هذه المراحل هناك إشارات عديدة نستشفها من التحركات المتحققة في عدد من الوسائل المالية.
هذه الأيام وبسبب الصراع الأخير بين روسيا وأوكرانيا، هناك ملاذات آمنة معروفة يلجأ إليها المستثمرون، فتتحرك أسعارها بشكل شبه مؤكد وخال من المخاطرة. فرأينا كيف تحرك سعر الذهب، الملاذ التقليدي ضد الحروب والتضخم، انظر الرسم البياني لحركة الذهب في الأشهر الثلاث الماضية وكيف ارتفع سعره بشكل ملحوظ لحظة انطلاق الحرب. كذلك ترتفع أسعار شركات النفط والطاقة نتيجة ارتفاع أسعار البترول، وهناك عدد كبير من الشركات العاملة في هذا المجال، إلى جانب الصناديق المتداولة المختصة بالطاقة، التي سبق أن تطرقنا إليها في تقارير سابقة.
هذا فيما يخص الملاذات التقليدية المعروفة، إلا أن لكل حرب جوانب خاصة بها وبالتالي تحدث تأثيرات خاصة بقطاعات معينة أو أحيانا بشركات محددة، وفي هذه الحرب الأخيرة هناك على سبيل المثال الشركات العاملة في مجال الأسمدة الزراعية التي تتمتع بها روسيا، وعلى وجه الخصوص دولة بيلاروسيا القريبة لروسيا والمتضامنة معها في هذه الحرب. هذه الدولة تتميز بإنتاج البوتاس، أو البوتاسيوم، وهو مادة طبيعية تستخدم على نطاق واسع في الزراعة وفي مجالات صناعية وعسكرية. وبسبب العقوبات المقرة على روسيا فإن هناك شح في الحصول على هذه المادة ما أدى إلى ارتفاع أسعارها وبالتالي ارتفاع أسعار الشركات العاملة فيها.
انظر الرسم البياني لشركة أمريكية صغيرة تعمل في مجال تجارة البوتاس وإنتاجه حيث ارتفع سعر سهمها بنحو 100 في المائة خلال شهر واحد، وكذلك هناك شركات أكبر من ذلك تعمل في هذا المجال منها شركة موزايك MOS.
الخاتمة
ربما يدفع العديد من الأسباب السياسيين لخوض الحروب، وأحيانا لا يكون هناك خيار غير الحرب، وعلى الرغم من ذلك فإن الحياة اليومية تستمر من دون توقف وعجلات الاقتصاد تدور وفرص الاستثمار لا تتوقف. وغالبا لا تتأثر أسعار الأسهم كثيرا بسبب الحروب، وإن تأثرت فيكون التأثير سريعا ومحدودا وبعده تعود الأسعار إلى مجراها الطبيعي. تتميز كذلك أسواق السلع والأسهم في قدرتها العجيبة على التنبؤ بمسار الحروب وتأثيراتها، التي غالبا يتم امتصاصها بسرعة.