تسريبات "كريدي سويس" تعيد المصارف السويسرية للماضي الغامض

تسريبات "كريدي سويس" تعيد المصارف السويسرية للماضي الغامض

محاولات سويسرا للتخلص من سمعتها منذ فترة طويلة باعتبارها مركز القطاع المصرفي العالمي المفضل لأقطاب المال والمسؤولين الحكوميين الفاسدين ومهربي المخدرات تلقت ضربة من خلال تسريب وثائق توضح تفاصيل حسابات 30 ألف عميل من عملاء بنك كريدي سويس.
تم الإبلاغ عن مخبأ الوثائق - التي يعود تاريخ بعضها إلى عقود - من قبل مجموعة من وسائل الإعلام وتسببت في مزيد من الإحراج لثاني أكبر مقرض في سويسرا، قضى العامين الماضيين وهو يترنح بين فضائح متلاحقة.
لكن التداعيات تهدد بالانتشار في جميع أنحاء قطاع التمويل السويسري، حيث انخفضت الأسهم في أوساط مصارف الدولة أكثر من معظم المصارف الأوروبية الإثنين، وهو اليوم الذي تضررت فيه أسواق الأسهم مع تصاعد التوتر على الحدود الروسية الأوكرانية.
ردا على تسرب الوثائق، دعا حزب الشعب الأوروبي، أكبر مجموعة سياسية في البرلمان الأوروبي، المفوضية الأوروبية إلى النظر في وضع سويسرا على قائمتها للدول "عالية المخاطر لغسل الأموال".
مع ذلك، أمضت المصارف السويسرية العقد الماضي بالفعل في التوقيع على الالتزام بالمعايير العالمية للحد من التهرب الضريبي وغسل الأموال، مع إغلاق حسابات العملاء المربحين لكن المشكوك فيهم في أعقاب ضغوط من الجهات التنظيمية الدولية.
برادلي بيركينفيلد، المبلغ عن المخالفات الذي سرب وثائق توضح تفاصيل تورط مصرف يو بي إس في التهرب الضريبي في أمريكا إلى الجهات التنظيمية في 2007، قال لـ"فاينانشال تايمز"، "السويسريون يطبقون أفواههم - وهذا متأصل في مجتمعهم وعقليتهم - لكن السرية المصرفية تم تدميرها فعليا".
مع تخفيف قبضة الدولة المشددة على السرية المصرفية، يتعين على أكبر المقرضين في سويسرا، بمن فيهم "كريدي سويس" و "يو بي إس" و"جوليوس باير"، أن يسألوا أنفسهم عما يقدمونه للعملاء إلى جانب غطاء من السرية.
إن هوس سويسرا بالسرية المصرفية يعود إلى القرن الـ18، عندما استخدم الملوك الفرنسيون الكاثوليك مصارف جنيف لتجنب النظام المصرفي البروتستانتي في فرنسا.
أصبحت منصوصا عليها في التشريع السويسري مع قانون المصارف 1934، الذي تم تصميمه للحد من الجدل المتصاعد حول تورط البلاد في التهرب الضريبي، لكنه تضمن أيضا بندا للمساعدة على حماية الأصول اليهودية الألمانية من الحزب النازي.
هذا الالتزام بسرية الخدمات المصرفية جذب الطغاة والمتهربين من الضرائب طوال القرن الـ20 - وقد أثار أخيرا غضب السلطات الضريبية في جميع أنحاء العالم.
لكن بيركينفيلد - أدت الوثائق التي سربها إلى دفع مصرف يو بي إس غرامة قدرها 780 مليون دولار بعد التوصل إلى اتفاق مقاضاة مؤجل مع وزارة العدل الأمريكية - يقول إن المصارف السويسرية قطعت شوطا كبيرا نحو الالتزام بالمعايير الدولية على مدى العقد الماضي.
سجن بيركينفيلد أيضا لدوره في مساعدة عميل على التهرب من الضرائب، لكنه تلقى تسوية بقيمة 104 ملايين دولار من دائرة الإيرادات الداخلية باعتبارها جزءا من برنامج المبلغين عن المخالفات الخاص بها.
في 2017، وقعت سويسرا على الالتزام بالمعيار الدولي للتبادل التلقائي للمعلومات، الذي يتطلب من المؤسسات المالية السويسرية مشاركة المعلومات المتعلقة بعملائها مع الدول المقيمين فيها ضريبيا. تلتزم أكثر من 100 دولة بالمعيار نفسه، الأمر الذي كاد يقضي على جاذبية سويسرا للمتهربين من الضرائب.
قال مسؤول تنفيذي عمل في "كريدي سويس" و "يو بي إس"، "إذا كنت طبيبا أو محاميا في فرنسا أو ألمانيا وقمت ببعض الأعمال الإضافية مقابل المال في عطلات نهاية الأسبوع، فإن المصارف السويسرية كانت مكانا جذابا لإخفاء مدخراتك وإعفائها من الضرائب. لكن تلك الأيام ولت منذ زمن بعيد، لا توجد فائدة ضريبية لامتلاك حساب مصرفي سويسري".
لكن مع احتدام المنافسة، ووجود نظراء دوليين مثل "مورجان ستانلي" و"جيه بي مورجان" و"بانك أوف أمريكا" عازمين أيضا على الاعتناء بأصول فاحشي الثراء في العالم، فإن حماقة الماضي تعرقل المصارف السويسرية.
كشفت عملية تسريب الوثائق الشهر الماضي، المعروفة باسم أسرار سويسرا Suisse Secrets، أن "كريدي سويس" احتفظ بحسابات العملاء بعد فترة طويلة من اعتقالهم لارتكابهم جرائم كالاتجار بالبشر والأمر بالقتل، إضافة إلى كثير من الأفراد المتهمين بالرشوة والفساد.
من بين عملاء "كريدي سويس" المذكورين، كان رونالد لي فوك، الرئيس السابق لبورصة هونج كونج الذي فتح حسابا في المصرف بعد عقد من سجنه لتلقيه رشا.
تضمنت الوثاق المسربة أيضا تفاصيل عن حساب يملكه نورسلطان نزارباييف، الرئيس السابق لكازاخستان.
صرح "كريدي سويس" بأن 90 في المائة من الحسابات الواردة في الوثائق المسربة أغلقت أو قيد الإغلاق.
أضاف المصرف، "من بين الحسابات النشطة المتبقية، نشعر بالارتياح لأن العناية الواجبة والمراجعات والخطوات الأخرى المتعلقة بالرقابة قد تم اتخاذها بما يتماشى مع إطار عملنا الحالي (...) وسنواصل تحليل الأمور واتخاذ خطوات إضافية إذا لزم الأمر".
يأتي التسريب في الوقت نفسه الذي يخضع فيه مصرف "كريدي سويس" لمحاكمة تاريخية في المحكمة الجنائية الفيدرالية السويسرية تتمحور حول تعاملات المصرف مع مجموعة من عصابات المافيا البلغارية.
استمعت المحكمة هذا الشهر لأقوال مفادها أن أكثر من ستة من كبار مديري "كريدي سويس"، إضافة إلى إدارته القانونية، كانوا على دراية بأن مجموعة من العملاء يحتمل أنها تتألف من مجرمي تهريب المخدرات الذين يمارسون العنف، مع ذلك وافق المصرف على معاملات لهم بملايين اليوروهات قبل تجميد حساباتهم.
لا يزال مقرضون آخرون يتضررون من مخالفات سابقة. مصرف "يو بي إس" يعترض على الحكم في قضية ضريبية فرنسية وجدت أن المصرف مذنبا في 2019 لمساعدة العملاء الأثرياء على التهرب من دفع الضرائب.
عانى مصرف جوليوس باير تورطه في قضية تتعلق بالفيفا، الهيئة المنظمة للعبة كرة القدم العالمية، وقضية فساد منفصلة متورطة فيها "بتروليوس دي فنزويلا"، مجموعة النفط والغاز الطبيعي المملوكة للدولة. نتيجة لذلك، تم حظر المصرف من قبل هيئة الرقابة على الأسواق المالية، الجهة المنظمة السويسرية، من تنفيذ صفقات كبيرة قبل عامين.
قالت جمعية المصارف السويسرية، وهي جماعة الضغط الخاصة بالصناعة، إن أعضاءها أنفقوا مبالغ طائلة على إجراءات الامتثال في الأعوام الأخيرة لتجنب مزيد من الفضائح.
قالت الجمعية، "المركز المالي السويسري ليس له مصلحة في أموال ذات أصل مشكوك فيه. إنه يولي أهمية كبرى للحفاظ على سمعته ونزاهته".
يقول محللون إن المصارف السويسرية تعاني خسارة في الإيرادات لأنها لم تعد قادرة على توفير ملاذ للنقود المعفاة من الضرائب ومن اضطرارها إلى إغلاق حسابات العملاء الخطرين أو المشكوك فيهم.
قال توم هاليت من "كيه بي دبليو"، "لم تعد المصارف تجمع الأصول ويتعين عليها قضاء مزيد من الوقت في الموافقة على العملاء والتأكد من أنهم ‘شرعيون’. أضر ذلك بها بالتأكيد".
قالت أنكي رينجين من شركة آر بي سي كابيتال ماركتس، "بالنسبة إلى ’كريدي سويس‘، حتى لو كانت المزاعم لا أساس لها من الصحة، هذا يثير تساؤلات حول ممارساته التجارية في إدارة الثروات وينبغي أن يربط الإدارة بضرورة قضاء وقت في إخماد الحرائق بدلا من المضي قدما".
*مراسل شؤون المصارف الأوروبية

الأكثر قراءة