بصمات الحرب على مناخ الاستثمار العالمي .. الأزمة تطول ثروات الأسر والشركات
تأتي الأزمة الروسية - الأوكرانية في وقت حرج للاقتصاد العالمي، الذي كان قد بدأ للتو في التعافي من ويلات جائحة كورونا، وعلى الرغم من أن روسيا وأوكرانيا تشكلان معا شريحة صغيرة من الاقتصاد العالمي ككل، فإن تلك الحرب والعقوبات الدولية المفروضة على روسيا سيكون لهما عواقب اقتصادية بعيدة المدى على الاقتصاد الدولي، خاصة فيما يتعلق بالقدرة والرغبة في الاستثمار، سواء من قبل المؤسسات أو الأفراد، وذلك نتيجة الشعور باضطراب المناخ الجيوسياسي الدولي وما لذلك من تبعات اقتصادية.
وبعيدا عن السياسة، حيث زعزعت الحرب الروسية على أوكرانيا النظام الأمني في أوروبا الذي كان قائما منذ نهاية الحرب الباردة، فإن المستثمرين بات عليهم التفكير مليا في كيف يمكن لهم التكيف مع عالم تغير إلى الأبد نتيجة تلك الحرب؟ والأهم بالنسبة لهم ما الأساليب التي يجب أن يتبنوها للتعامل مع تلك التغييرات؟
والحرب أضعفت التوقعات الاقتصادية لهذا العام، وربما الأعوام المقبلة، فارتفاع تكاليف الطاقة واستمرار الاضطراب في سلاسل التوريد وكلاهما سيزداد سوءا بسبب الحرب، حيث تعد روسيا موردا رئيسا للغاز الطبيعي والنفط وتحديدا إلى أوروبا، إذ تضخ روسيا ما يراوح بين 10 - 12 في المائة من النفط العالمي، بينما يعتمد الاتحاد الأوروبي على روسيا فيما يقرب من نصف وارداته من الغاز الطبيعي ونحو 25 في المائة من وارداته من النفط، وتعني تكاليف الطاقة المرتفعة نقلا أكثر تكلفة، ما يؤثر في حركة شحن جميع أنواع البضائع.
وربما يكمن الخطر الأكبر على الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن في الدخول في أزمة مطولة قد تدفع الاقتصادات الكبرى إلى الركود التضخمي، وهو مزيج من التضخم المرتفع والنمو الاقتصادي المنخفض، وهذا يعني في الأساس أن على المستثمرين الاختيار بدقة عندما يتعلق الأمر بكيفية تخصيص مواردهم وأصولهم المالية المحدودة نسبيا، حيث ستصبح التدابير السابقة للعملية الاستثمارية بأهمية العملية الاستثمارية ذاتها إن لم تكن أكثر أهمية.
ومع تراجع أسواق الأسهم في العالم، تأثرت عدد من الشركات الدولية الغربية بالعقوبات، ومن أبرزها شركة النفط البريطانية بي بي وهي أكبر مستثمر أجنبي في روسيا، حيث تمتلك 19.75 في المائة في شركة النفط الوطنية الروسية "روسنفت"، إضافة إلى حصص متباينة في مشاريع النفط والغاز الروسية الأخرى.
بينما تسيطر شركة دانون الفرنسية لصناعة الزبادي على 6 في المائة من إجمالي مبيعات روسيا، في الوقت الذي تعمل فيه شركة إكسون موبيل منذ ربع قرن في روسيا، كما تمتلك شركة إكسون نفطغاز المحدودة حصة 30 في المائة من مشروع ضخم للنفط والغاز الطبيعي يقع قبالة جزيرة سخالين في الشرق الأقصى الروسي.
وحول تأثير الحرب الروسية - الأوكرانية على مناخ الاستثمار العالمي، قال جاك أوليفر الخبير الاستثماري "بالنسبة لرجال الأعمال والقرارات الاستثمارية فإن معدل التضخم مهم، لكن الأهم هو التوقعات المستقبلية للمستهلكين بشأن التضخم وما إذا كان سيرتفع أكثر في المستقبل ام لا؟"
وأوضح أن "التوقعات بتراجع الاقتصاد العالمي قد تدفع إلى دوامة في أسعار الأجور، حيث يطلب الناس أجورا أعلى للتعويض عن ارتفاع تكاليف المعيشة، ما يضطر الشركات إلى زيادة الأسعار بشكل أكبر في جميع المجالات لدفع تكاليف زيادة الأجور، هذا الاتجاه الذي سيترافق في الأغلب مع رفع أسعار الفائدة سيؤدي إلى تقلص الاستثمارات على المستوى العالمي وفي الاقتصادات المتقدمة على وجه التحديد".
من جانبها، قالت الدكتورة لورين آرثر أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة لندن، إن "سوق الأسهم ومنذ بداية العام يعاني مصاعب ملحوظة، إذ بدأ في الانخفاض بعد أن أعلنت البنوك المركزية الكبرى أنها في طريقها إلى تفكيك الدعم الذي قدمته للأسواق لأعوام، ومنذ الدخول العسكري الروسي في أوكرانيا تراجعت أسواق الأسهم أكثر، وإذا عاد الركود التضخمي، فإن الاقتصاد المتباطئ سيضر بأرباح الشركات ويزيد من انخفاض أسعار الأسهم على الرغم من ارتفاع أسهم الطاقة، وهذا بدوره سيقلل الاستثمار ويزيد من مناخ عدم الثقة في النشاط الاقتصادي والأعمال التجارية، ويؤدي إلى عدد أقل من الوظائف".
واستدركت قائلة "بالنسبة لعديد من الأشخاص الذين يمتلكون أسهما أو أصولا أخرى، في الأغلب مما يؤدي ارتفاع الأسعار إلى ما يعرف بتأثير الثروة، حيث يكون الأشخاص أكثر ثقة بشأن الإنفاق أو الاقتراض، خاصة فيما يتعلق بسوق السلع باهظة الثمن مثل العقارات أو السيارات، وبالتالي فإن ضعف الأسواق سيؤثر في النمو الاقتصادي، فضلا عن تأثيره الملحوظ في صناديق المعاشات التقاعدية التي تلعب دورا مهما في الاقتصادات المتقدمة".
على الرغم من تراجع الأسواق المالية العالمية الكبرى في أعقاب الهجوم الروسي على أوكرانيا، فإنه كان من الممكن أن يكون التراجع أكثر حدة مقارنة بما حدث، إذ لوحظ أن هناك عمليات بيع كثيفة نسبيا للأسهم، وانخفضت عائدات السندات، بينما لم تتسع الهوامش الائتمانية كثيرا، ما يشير إلى أن الأسواق فوجئت بالهجوم الروسي، ومع هذا يمكن وصف ردود فعل السوق بأنها كانت منظمة ومنضبطة، بما يكشف عن قناعتها بأن نطاق الحرب لن يتسع ويشمل دولا أخرى في أوروبا.
مع هذا يعتقد بعض الخبراء أن الاقتصاد العالمي يحتمل أن يواجه أزمة مالية، ويواجه مزيدا من السقوط بما لذلك من تأثير في ثروات الأسر والشركات ومن ثم على القدرة الاستثمارية العالمية.
بدورها، ترى الخبيرة الاستثمارية إيفلين أوسكار، أن مخاطر الركود التضخمي ستظهر في اختلاف العوائد الاستثمارية، وأن تباطؤ النمو أمر لا مفر منه، وهذا سيترك بصمات ذات طبيعة مضطربة بشأن الاستثمار.
وقالت لـ"الاقتصادية" إن "معنويات المستهلكين ستضعف، وجزء من هذا يعود للتضخم، لكن الجزء الأكبر سيعود إلى عدم استقرار الأسواق وفقدان الثقة فيها خاصة في الاقتصادات المتقدمة، وهذا يعني نموا اقتصاديا أبطأ مما كان متوقعا في الولايات المتحدة وأوروبا ومعظم الأسواق الناشئة وسيترك ذلك بصمات غير إيجابية على القدرة الاستثمارية.
وتعتقد إيفلين أوسكار، أن التركيز الأساسي في المرحلة المقبلة في المجال الاستثماري سينصب على إدارة المخاطر، وأن الاقتصاد العالمي قد يشهد موجة من البحث عن السيولة المالية في ظل شعور بعدم الثقة واحتمال اتساع نطاق المخاطر الجيوسياسية، بما يعنيه ذلك من عمليات بيع واسعة النطاق لمختلف أنواع الأصول والأسهم واللجوء للسندات الحكومية.
من هذا المنطلق تحديدا يدعو الخبراء إلى أن يكون التنوع الاستثماري سيد الموقف في الفترة المقبلة، مع الابتعاد عن المخاطر الناجمة عن الاستثمار في الأصل شديدة الخطر والتقلب، وسط تركيز أكبر من قبل المؤسسات الاستثمارية على أهداف السياسة الاستثمارية طويلة الأجل، بدلا من البحث عن الربح في الأمد القصير لما له من تأثير سلبي في الرؤية الاستثمارية في أوقات الاضطراب الجيو-سياسي.