إصلاح سلسلة التوريد كنقطة نقاش سياسي
تثير موجات نقص الإمدادات الناجمة عن اندلاع الجائحة المخاوف بشأن الأمن القومي في الاقتصادات المتقدمة. ونظرا إلى شعورهم بالقلق إزاء الاعتماد المفرط على التصنيع الصيني، اقترحت كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان مبادرات لنقل الإنتاج. وهم ليسوا بمفردهم. تكتسب عملية إضفاء الطابع الجيوسياسي على الصلة بين التجارة والصناعة والأمن مزيدا من الزخم في العالم النامي أيضا. ومن غرب البلقان إلى أمريكا اللاتينية، ترى الحكومات فرصة اقتصادية ضخمة في مرحلة ما بعد نهاية فيروس كوفيد - 19 في إعادة التصنيع ونقل الإنتاج إلى مناطق أقرب.
ومع ذلك، قد تكون مثل هذه الطموحات مفرطة في التفاؤل. بحسب تقرير مشترك لثلاثة مختصين هم أوتافيانو كانوتو، نائب الرئيس السابق والمدير التنفيذي للبنك الدولي، وجاستن ييفو لين عميد معهد الاقتصاد الهيكلي الجديد، وبيبي زانج مؤلف مشارك لكتاب: ثلاثة سيناريوهات لما بعد COVID "المجلس الأطلسي، 2021".
فعلى الرغم من تراجع معدل انتشار التصنيع في الوقت المناسب، يبدو أن الصادرات الصينية تعززت بعد مرور عامين على اندلاع الجائحة، بسبب المرونة النسبية في جانب العرض والتحول "ربما المؤقت" في الطلب العالمي من الخدمات إلى السلع. علاوة على ذلك، تشير المؤشرات المبكرة إلى أن معظم دول أمريكا اللاتينية، على سبيل المثال، لم تتفوق بعد على الصين أو غيرها من الدول الآسيوية المصدرة في سوق الولايات المتحدة، على الرغم من إمكانات المنطقة كموقع قريب لإعادة التصنيع خلال أزمة فيروس كوفيد - 19 وخفض أو حتى عكس مزايا تكاليف العمل التي تتمتع بها الصين مقارنة بالمكسيك والبرازيل.
لقد تبين أن إعادة تشكيل سلاسل التوريد أكثر تعقيدا مما كان متوقعا في مستهل الأمر. إن إزالة الأنماط الإنتاجية الدولية التي دامت ثلاثة عقود من الزمان - التي استفادت منها آسيا بشكل خاص - ستتطلب أكثر من مجرد جغرافيا مواتية، أو مدخرات جزئية في التكاليف، أو توفير حوافز سياسية واقتصادية غير مسبوقة.
أولا، يتعين على الحكومات التي تأمل إعادة التصنيع ونقل الإنتاج إلى مناطق أقرب العودة إلى الأساسيات الاقتصادية. وفي غياب التحسن المستمر للعوامل الأساسية المحلية - بما في ذلك استقرار الاقتصاد الكلي، واليقين والبساطة على الصعيدين التنظيمي والقانوني، والهياكل الأساسية المادية، والتعليم والمهارات، والإنتاجية والابتكار، وتشجيع وتيسير الصادرات - سيكون اهتمام المستثمرين ضئيلا وقصير الأجل. تشكل المؤسسات والسياسات العامة الفعالة أهمية بالغة لحماية هذه المبادئ الأساسية.
ثانيا، يجب أن تكون الحكومات واقعية ودقيقة في اختيار "الفائزين"، بالاعتماد على تقييمات دقيقة للمزايا النسبية القائمة أو الكامنة. يهدد الدعم المتهور للشركات غير القابلة للاستمرار بتشويه المنافسة المحلية والدولية واستبعاد مستثمري القطاع الخاص، كما أنه ينطوي على تكلفة بديلة مهمة، نظرا إلى القيود المفروضة على الميزانية في الوقت الحالي، ولا سيما في عديد من الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط LMICs. ومن المرجح أن يؤدي التركيز الهائل على التصنيع البديل للواردات، كما حدث في أمريكا اللاتينية في الربع الثالث من القرن الـ20، إلى التوزيع غير الفعال للموارد مقارنة بالنجاح طويل الأجل.
ثالثا، يظل التكامل الإقليمي أداة قوية لتحفيز التجارة والقدرة التنافسية الاقتصادية والانفتاح وتحديد المعايير على نطاق أوسع. لنأخذ على سبيل المثال اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة التي تقودها رابطة دول جنوب شرق آسيا، التي دخلت حيز التنفيذ هذا العام. لا تعد الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة الآن أكبر كتلة تجارية على مستوى العالم فحسب، التي تضم ما يقرب من ثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي، كما أنها تمثل مرحلة بالغة الأهمية نحو تنسيق "مجموعة" اتفاقيات التجارة الحرة في آسيا.
وعلى نحو مماثل، من خلال خفض الحواجز الجمركية وغير الجمركية والسماح بإجراء إصلاحات سياسية تكميلية أخرى، يمكن لاتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية التي مضى عليها عام واحد أن تنتشل 30 مليون إفريقي من براثن الفقر المدقع بحلول 2035. وعلى الصعيد العالمي، سيستمر الطلب على مزيد من التكامل والتنسيق الاقتصاديين الأوثق بعيدا عن التجارة في الارتفاع، من خلال "الاتفاقيات التجارية العميقة" التي تعمل على مواءمة تدابير حماية الاستثمار، ومعايير العمل والبيئة، وحقوق الملكية، وعن طريق مبادرات مثل الحد الأدنى للضريبة العالمية على دخل الشركات الذي أقرته مجموعة السبع.
رابعا، إضافة إلى الاستفادة من الدروس القيمة المستخلصة من دليل السياسات الصناعية "القديم"، يجب على الحكومات أن تولي اهتماما وثيقا بالفرص والتحديات الجديدة. على سبيل المثال، في حين تعمل رقمنة التجارة عبر الحدود "على وجه التحديد في البرمجيات والعمليات التجارية" على إزالة حواجز الدخول وتقليل تكاليف تطوير قطاعات التصدير بأكملها، فإن زيادة الوعي البيئي ومعايير الامتثال الجديدة "مثل آلية تعديل حدود الكربون في الاتحاد الأوروبي" من شأنها أن تدفع الشركات المصنعة لتصبح قادرة على المنافسة الخضراء.
وأخيرا، ستتطلب عملية صنع السياسات التطلعية في هذا السياق الإجابة عن بعض الأسئلة الصعبة التي تتجاوز السياسة والجغرافيا السياسية. وفي الأمدين القريب والمتوسط، هل تشكل إعادة التصنيع أو نقل الإنتاج إلى مناطق أقرب حقا فرصة كبيرة كما يدعي بعض الخبراء، أم يتعين على الحكومات التركيز على أولويات أخرى؟ وعلى المدى البعيد، ما نوع التصنيع والسياسة التجارية الذي سيكون أكثر فائدة ووضوحا في المستقبل؟.
بالنسبة إلى الاقتصادات المتقدمة، يكمن التحدي الرئيس في التغلب على ما يطلق عليه آدم بوسن الخبير الاقتصادي الأمريكي "الاعتماد المفرط على وظائف التصنيع". تشكل وظائف التصنيع التقليدية أهمية سياسية، ومع ذلك من غير المرجح أن تنمو حصتها من إجمالي العمالة في الدول ذات الدخل المرتفع. ولذلك، فإن الأمر يتطلب اكتساب وتحسين المهارات لإلغاء التعديلات التي قد تطرأ على سوق العمل في نهاية المطاف. قد تكون القطاعات البالغة الأهمية مثل أشباه الموصلات والأدوية من بين القطاعات القليلة التي يمكن أن تستفيد بشكل فعال من إعادة التصنيع، وهي عملية تتضمن عديدا من المقايضات لكل حالة على حدة بين التكلفة والمرونة.
أما بالنسبة إلى الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، فيجب أن تعمل مزايا تكاليف العمالة، والبنية التحتية المعززة، وتقليص سلاسل القيمة العالمية على توفير الفرص مع مرور الوقت، ولا سيما مع تحول الصين نحو إنتاج أكثر تطورا وذا قيمة مضافة أعلى. ومع ذلك، سيعتمد مدى قدرة الدول منخفضة ومتوسطة الدخل على تحويل هذه الفرص إلى استثمارات حقيقية ومكاسب في مجال التصدير، على فهم ومراعاة المبادئ الأساسية. قد يكون هناك تباين كبير فيما بين الدول والمناطق ومراحل التنمية، كما يمكن أن تشكل الروبوتات والأتمتة تحديا من خلال نقل بعض عمليات الإنتاج إلى الدول المتقدمة.
يتمثل سؤال رئيس آخر يطرح على الدول منخفضة ومتوسطة الدخل فيما إذا كان نموذج النمو القائم على التصنيع الذي يتطلب عمالة كثيفة ويقوم على التصدير الذي نجح في تحقيق مصالح اقتصادات كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونج كونج "النمور الآسيوية" سيظل فعالا بما فيه الكفاية بالنسبة إلى الاقتصادات الأخرى بعد 20 عاما أو أكثر من الآن؟ وفي هذا النقاش الحاد، يجادل المتشككون في أنه مع توقف أو تراجع المساهمات في النمو العالمي من التجارة، فقد تكون هناك حاجة إلى إعادة النظر في سياسات النمو القائمة على التصدير.
ومع ذلك، حتى المتشككون يتفقون مع ثلاثة تقييمات أساسية: فمن غير المرجح أن يحدث تغيير شامل بين عشية وضحاها، وسيظل التحديث الصناعي ونمو الإنتاجية - في مجال السلع أو الخدمات - أمرين أساسيين. وحتى بالنسبة إلى الشركات المصنعة التي تخدم السوق المحلية بشكل حصري "أو التي من غير المرجح أن تصبح شركات مصدرة"، فإن الروابط الإنتاجية مع الموردين في المراحل السابقة أو الشركاء في المراحل التمهيدية لن تختفي تماما.
وبالنظر إلى المستقبل، يجب أن تشكل هذه الاعتبارات، وليس إضفاء الطابع الجيوسياسي على سلاسل التوريد، مصالح الحكومات وأولوياتها في مجال السياسة الصناعية. وفي سياق متناقض يتمثل في تدهور الأوضاع المالية وزيادة الإعانات المالية في مختلف أنحاء العالم، هناك حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى وضع سياسات واضحة ودعم هادف قائم على الأداء، ولا سيما في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط.
تعد الآمال في إعادة التصنيع ونقل الإنتاج، وإنعاش الصناعات أو الصادرات الوطنية على نطاق واسع، أكثر قابلية للتحقيق في الدول الملتزمة بالأساسيات، لكنها غير محتملة في الدول التي تستخدم إصلاحات سلسلة التوريد كنقطة نقاش سياسي. في واقع الأمر، لا توجد طرق مختصرة للتنمية الاقتصادية.