مهني متميز ولكن

تختلف تحديات التفوق المهني الذي يؤول إلى النجاح الحياتي حسب نوعين من الأشخاص، الأول وهو الذي لا يملك التفوق المهني/ التأسيس أو المهارات المناسبة وهذا يصارع للحصول على وظيفة، والثاني من تم تأسيسهم بشكل جيد ويملكون مخزونا مهاريا منوعا وقويا في أحد المجالات الواعدة التي تحتاج إليها السوق. قد يسأل سائل، هل النوع الثاني يواجه مشكلة أساسا؟! فالسوق متعطشة لأصحاب الجاهزية، وإجمالا: "أمورهم ممتازة وحظهم طيب". في أرض الواقع الموضوع مختلف ومخاطره مؤثرة.
بينما يتطلب النوع الأول إعادة تأسيس تنقله إلى خانة النوع الأول، يمثل النوع الثاني مجموعة الأشخاص المؤسسين بشكل جيد، ستجدهم ملتحقين بوظائف مثالية في تخصصاتهم ويملكون باقة المهارات التأسيسية الأهم التي يحتاجون إليها للقيام بأعمالهم. إذن أين المشكلة هنا؟ في الحقيقة هناك عدد من التحديات التي يواجهها هؤلاء وهي تحديات مؤثرة في إدارة المسار المهني، إن لم يتمكنوا من معالجتها باقتدار قد تتحول إلى مخاطر مدمرة لمسارهم المهني، أو على أقل تقدير، تضيع عليهم فرصا يصعب تعويضها. والعامل الأهم هنا، أن عملية تطوير المسار المهني مسألة بطيئة نسبيا ولكنها مستمرة لا تتوقف، إذ يجد الشخص نفسه بعد عدد من الأعوام وقد فقد الحماس أو تغيرت السوق ما يجعله خارج سياق التميز الذي اعتاد عليه.
أول هذه التحديات يتمثل في السعي خلف "وهم الإدارة" على حساب التفوق الفني أو الـ technical mastery، وعلى الرغم من أن التفوق الفني ليس شرطا في كل نواحي التخصص لكنه سند الحماية الأهم للمهني الناجح. وما يحدث في العادة، ونظرا لاحتياج المنظمات إلى من يسير عملها إداريا، يتم تكليف المتفوقين فنيا بإدارة أعمالها. يعتقد البعض أن هذا نوع من الترقية في المهام أو التشريف في المنظمة كمنظومة اجتماعية، وهو مجرد إلهاء وتشتيت.
الأمثلة كثيرة، باحث أكاديمي منتج ينشغل عن أبحاثه بأعمال إدارية تشمل تسجيل جداول الأكاديميين ومشكلاتهم كموظفين ومسائل قبول الطلاب، أو جراح حذق يتحول إلى مدير مشتريات يتعامل مع موردي الأدوية والمعدات الطبية وإدارة جودة الإجراءات الإدارية، أو كبير المبرمجين الذكي الذي ينسى كيف يستخدم علوم وتحديات المنطق في تحويل المشكلات إلى حلول برمجية لأنه أصبح مديرا لمحفظة المشاريع وجل وقته ينحصر في جداول التخطيط ورصد ساعات الموظفين ومعالجة ما تداخل منها. هذا انتقال مهني من مجال إلى آخر، وهو غير مذموم في حد ذاته ولا يمكن منع أحد منه، ولكن ينبغي أن يحصل في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة. مثلا، قد يخطط الموظف أنه وبعد عشرة أعوام من التفوق الفني سيحول مخزونه المهاري المتخصص إلى مكتبة شخصية افتراضية يستخدمها لتقديم الأعمال الاستشارية والإدارية، ولكن الانتقال إلى هذه الخطوة يجب أن يكون بعد تحقيق إنجازات معينة ومرور فترة زمنية محددة. تغيير المسار المهني بطريقة تضعف معادلة العطاء والمردود المهني ودون تخطيط مسبق نتيجتها في معظم الأحيان خسارة للفرد والمجتمع.
من هذه التحديات أيضا، الاستجابة إلى ديناميكية سوق العمل المتقلبة، سيحظى أصحاب النوع الثاني بطلبات متكررة من المتعطشين لأصحاب المهارات والخبرة. ومع أن سوق العمل عرض وطلب، وعلى الرغم من أن فترة البقاء المثالية في مكان عمل واحد قد تقلصت أخيرا "مثلا من سبعة إلى عشرة أعوام، إلى ثلاثة إلى خمسة أعوام" إلا أن قرار التحرك ينبغي أن يكون وفق مستهدفات محددة، مثلا الإنجاز المحدد المعالم الذي يشتمل على تحقق الخبرة والمعرفة الجديدة وصنع الأثر، من يخرج من مكان عمله قبل أن يتعلم يغش نفسه، ومن يخرج قبل أن ينفع مكان عمله، يخون من وثق به. المسألة هنا ليست زمنية فقط بقدر ما هي نوعية كذلك.
تشمل التحديات مسألة التعلم المستمر والإحاطة الجيدة بالجوانب المعرفية المتجددة في مجال التخصص. يعتقد بعضهم أن حصوله على شهادة مهنية أو اكتسابه صفة المتخصص يجعله ختم الجهود المطلوبة منه في مساره المهني، والمسار المهني ــ معرفيا ــ دائما في "بداية" مهما طالت الأعوام. أتعجب كثيرا من المهنيين المتخصصين الذين لا يعرفون ما يحدث عالميا في مجال عملهم، ولا ينتظمون على قراءة مستجدات مجالاتهم، وليس لديهم شبكات مهنية محلية ودولية يستقون منها ما هو جديد ولافت وواعد. ومثل هؤلاء أشبه بالخدعة لمن حولهم ممن يتعلم منهم أو لمنظماتهم التي وثقت بهم.
تنتقل الممارسات والتطبيقات إلى درجات متقدمة من التعقيد في وقت سريع جدا، وهذا يتطلب نموا سريعا ومعرفة متجددة ومركزة عند الذين يثبتون أنفسهم في مسارات مهنية واعدة. ولهذا أيضا، ترتفع التوقعات الخاصة بنقل المعرفة إلى الزملاء الجدد، المتعطشين إلى الاحتكاك بالمتخصصين والخبراء لغرض التعلم. وهذا ما يجعل أحد أهم تحديات المهنيين مرتبط بالتأهيل الجدي والحقيقي ــ في الجوهر وقلب التخصص وبمعرفة فنية حقيقية ــ وليس العمل بطريقة هشة وهامشية والتنقل السريع غير المدروس. تجاهل تحديات المتفوقين مهنيا يعني أننا سنحصل على عاطلين مؤهلين في أماكن العمل إضافة إلى العاطلين غير المؤهلين في الشارع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي