رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


فصل جديد بسلاح العقوبات

تشهد الأزمة الروسية - الأوكرانية تطورات متسارعة، سياسية واقتصادية، ولربما نحو مستوى خوض حرب عسكرية بين الطرفين والأطراف الأخرى المتحالفة مع كييف، في ظل التوترات المخيفة التي تشتعل من هنا وهناك، خاصة بعد أن فتح قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الاعتراف باستقلال المناطق التي تخضع لسيطرة الانفصاليين الموالين لموسكو في دونيتسك ولوغانسك شرقي أوكرانيا، فصلا جديدا في التوتر الروسي الغربي المتواصل منذ شهور، ورفع من فرص تحول الصراع إلى مواجهة عسكرية شاملة.
كما ظهر في الأفق إعلان عقوبات اقتصادية ضد روسيا من قبل تحالف الناتو بقيادة أمريكا، فيما توعدت الأولى بالرد بالمثل مقابل تهديدات دول أوروبية. وإزاء هذا الموقف الصعب سياسيا واقتصاديا، يشهد المجتمع الدولي حالة من القلق والترقب نتيجة تصاعد الصراع الأوكراني - الروسي، مع وجود تهديدات روسية بشن غزو عسكري على كييف، كما ينظر إلى أن التصعيد الروسي على الحدود الأوكرانية يعد جزءا من استراتيجية روسية من شأنها تهديد مستقبل الأمن الأوروبي الجماعي.
وقد بدا أن النهج الروسي أكثر خطورة في الوقت الحالي، فبعد التوغل في جورجيا وضم شبه جزيرة القرم إلى الأراضي الروسية في 2014، تهدد روسيا الآن بغزو شامل للأراضي الأوكرانية. وفي هذا السياق، صعدت واشنطن هي الأخرى لغتها التهديدية للجانب الروسي بفرض مزيد من العقوبات على موسكو، وذلك لمنع تمدد النفوذ الإقليمي لموسكو، وردا على التصعيد الروسي، فيما أعلنت حزمة من العقوبات مع دوائر قريبة تعمل بالقرب من الرئيس الروسي بوتين، كما أنها بصدد نشر آلاف من القوات العسكرية، وذلك دعما لقوات حلف شمال الأطلسي في منطقة أوروبا الشرقية، لدعم القوات الأوكرانية في مواجهة تهديدات موسكو بالغزو العسكري لكييف. وأعلنت بريطانيا عقوبات ضد موسكو، وتبعتها ألمانيا وفرنسا بتهديد من هذا القبيل، وكذلك عدد من دول هي أعضاء في حلف الناتو مثل كندا وغيرها.
وفي هذه الصورة والخلفية السوداء ربما تعقدت المسألة بعض الشيء في الجولة الأولى من العقوبات الغربية الجديدة على روسيا، لكن الأمر كان مفهوما منذ البداية، وهو أن "السلاح" الذي سيستخدمه الجانب الغربي، يبقى دائما العقوبات، بصرف النظر عن مستوى "عوائدها" السياسية - إن جاز القول.
المواقف لا تزال كما هي بين القوى الغربية ممثلة في حلف شمال الأطلسي "الناتو" وروسيا الاتحادية، التي اعترفت للتو بـ"جمهوريتين" هما دونيتسك ولوغانسك، اللتان اقتطعتا من أوكرانيا، بعد تحذيرات لا تنتهي من جانب موسكو، من مغبة ضم أوكرانيا إلى "الناتو". والخلافات بين روسيا والغرب حول هذا البلد ليست جديدة، وتعود إلى أعوام خلت، لكن وصولها إلى حد إمكانية دخول القوات الروسية الأراضي الأوكرانية في أي لحظة، رفع مخاطر المواجهة بين قوى نووية تقليدية، يعرف العالم كله مدى خطورة مواجهة كهذه على البشرية.
كان من المتوقع أن تسرع ألمانيا إلى تجميد عمل خط الغاز الهائل "نورد ستريم 2" بينها وبين روسيا. فالرئيس الأمريكي كان قد أعلن قبل أسبوعين أن أولى العقوبات التي ستفرض على موسكو، ستكون وقف هذا الخط الذي يعد شريان الغاز الأكبر من روسيا للقارة الأوروبية. ويبدو واضحا أن المسؤولين الألمان فشلوا كغيرهم من المسؤولين الغربيين الذين زاروا موسكو خلال الأيام الماضية، أن يقوموا بدور الوسيط أو أن يقدموا ما يمكن أن يوقف الأزمة قبل أن تصل إلى حافة الهاوية. والغاز يبقى دائما الجانب الأكثر حساسية بالنسبة إلى القارة العجوز "المتعطشة" دائما للطاقة بأنواعها، وعندما كانت الأمور منفرجة بين الغرب وروسيا، كانت إمدادات النفط والغاز تسير بوتيرة ترضي الجميع، من كل الجوانب، بما في ذلك الأسعار.
والملاحظ أن الولايات المتحدة حاولت في الشهر الماضي أن تمد أوروبا بكميات كبيرة من الغاز، إلا أن هذه المحاولات ظلت ضمن نطاقات رمزية، لأسباب تتعلق بعمليات النقل وارتفاع تكلفته، كما أنه لا يمكن أن يتم تزويد قارة بحجم وقوة أوروبا بالغاز عبر الطرق البحرية، فضلا عن أن الغاز الجزائري الذي يصل إلى القارة لا يغطي من الاحتياجات إلا قليلا، بينما الخط المار عبر المغرب إلى إسبانيا يبقى مغلقا لأسباب متصلة بالمشكلات الحدودية، وغيرها، بين الرباط ومدريد. مع تجميد "نورد ستريم 2" يعم الضرر على الطرفين بالطبع. فروسيا تبقى بلدا يعتمد بصورة أساسية على النفط والغاز، واقتصاده ليس متنوعا، فضلا عن أن الجانب المستورد للطاقة الروسية سيعاني لاحقا ارتفاع تكاليف الطاقة، وبالتالي انعكاس ذلك على الحياة المعيشية في كل القارة الأوروبية.
لا شك في أن مواجهة مثل هذه التي تجري حاليا بين موسكو وبقية عواصم "الناتو"، لها تداعياتها ليس فقط على المدى القصير، بل الطويل أيضا، خصوصا إذا ما استمرت فترة أطول، وإذا ما تفاقمت واتجهت نحو محطات "ساخنة" أكثر. فكل الأطراف ستكون متضررة مثل أي مواجهة تحدث بهذا المستوى، وتفاقم الأزمة يعني - ببساطة - ارتفاع حدة التداعيات والتأثيرات على كل من أوروبا وروسيا حتى الولايات المتحدة التي ستعاني لاحقا ارتفاع أسعار الطاقة فيها، رغم أنها من المنتجين الرئيسين لها، فضلا عن ابتعاد فرص التفاهم في المستقبل بين الطرفين الأساسيين.
ويبدو واضحا، أن الجانب الغربي لا يمكنه أن "يضحي" بأوكرانيا، لكنه في الوقت نفسه لا يمكن أن يدخل مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، والمسألة لا تنحصر في كون الصراع بين الطرفين يشمل قوى نووية هائلة معروفة فحسب، بل لأن مواجهة فعلية على الأرض ستدخل أوروبا والعالم أيضا في مشكلة ستحتاج إلى عقود لحلها، وستعمق التوتر الدولي، بينما يحتاج العالم إلى تفاهم مستمر وحل الخلافات بهدوء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي