الاحتيال بـ «أموال كورونا»
في كل حدث مفاجئ خارج عن المألوف أو السياق المعتاد، هناك ثغرات واسعة ليست بالضرورة أن تكون مرئية للجميع. وعندما يشمل الحدث جوانب مالية، ستكون هناك الثغرات أكثر اتساعا، ولا سيما إذا ما كانت الأنظمة الرقابية غير مشددة، أو على الأقل غير خاضعة للمراجعة في وقتها الاستثنائي. يرى المحتالون في مثل هذه الحالات والأحداث فرصا لا حدود لها، ويزدهر حراك العصابات المنظمة، وتتوالد أخرى جديدة. وفي حالات بعينها تلقى هذه العصابات والأفراد الدعم من أشخاص يملكون صناعة القرار في هذا الجانب أو ذلك. أي أن الدائرة تكتمل في وقت يكون فيه النظام منشغلا بمواجهة أزمة أو حالة أو مشكلة أو مصيبة لم يتهيأ لها، عليه أن يتعلم منها. فلا يوجد نظام في العالم كبير على تبعات حالات طارئة، خصوصا تلك التي تأتي بمخاطر يصعب التخلص من أعبائها لفترات طويلة.
في الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في عام 2008، ظهرت الثغرات التي فتحت الطرق أمام المحتالين، علما بأن هذه الأزمة أظهرت أكبر محتال مالي في التاريخ "برنارد مادوف" الذي سرق على مدى 20 عاما أموالا بلغت 65 مليار دولار، من كل الجهات والأفراد الذين صدقوا أنه مستثمر حقيقي. وإذا كان هذا الأخير "وغيره ممن احتالوا" استفاد مما يمكن وصفه بـ"الفلتان المالي"، هناك أفراد وعصابات استفادت من أموال المساعدات الحكومية التي قدمت للمتضررين من الأزمة المشار إليها، حتى على مستوى الدعم المعيشي اليومي. فكما في الأعمال والحراك العام في الظروف الطبيعية هناك فرص جاهزة للاقتناص، كذلك في حالات الطوارئ هناك عصابات تبحث عن الفرص المتاحة وغير الواضحة للجميع.
مع انفجار جائحة كورونا قبل عامين تقريبا، أسرعت الحكومات حول العالم إلى ضخ الأموال عبر سلسلة من عمليات الدعم لوقت تدهور اقتصاداتها، وكذلك للوقوف إلى جانب الأفراد الذين تضرروا من الإغلاقات والقيود التي فرضت لحصر اتساع رقعة هذا الوباء المفاجئ. كان الدعم يشمل سد العجز المالي للأعمال من كل الأحجام، كي لا تضطر إلى الخروج من السوق، وفي الوقت نفسه لتوفير الأجور اللازمة للموظفين والعاملين فيها. ووفرت الحكومات أيضا إمكانية تقديم القروض المعفاة من الفوائد والطويلة الأجل، من أجل أن يحافظ المستفيدون منها على أعمالهم، وعدم لجوئهم إلى قروض البنوك مرتفعة الفوائد. وهذه التسهيلات على وجه الخصوص، أغرت المحتالين في كل مكان، بما في ذلك بريطانيا، التي أعلنت أن الشرطة تتعقب مليارات الجنيهات الاسترلينية استولى عليها محتالون مستفيدون من التسهيلات المصرفية، بمن فيهم أفراد ليس فقط يتنمون إلى منظمات إجرامية، بل لهم سجلات عند الجهات المختصة تمنع منحهم أي قروض على الإطلاق.
وهذا يعني أن نظام الرقابة أو المتابعة أو التحقق، يعاني "ترهلا" في هذا المجال، أو أن الاضطراب الذي أوجدته كورونا في دائرة صنع القرارات الإنقاذية، أغفل هذا الجانب المحوري في عملية منح القروض. بعض المحتالين الذين تم القبض عليهم ومحاكمتهم، اعترفوا بأنهم وجدوا طريقة لإخراج أموال القروض التي اقتنصوها، عبر تصدير السيارات الفاخرة المسروقة لخارج نطاق الاتحاد الأوروبي. فهم بذلك يرتكبون جرائم مالية في أكثر من مجال. بالطبع هناك محتالون حصلوا على قروض بتزوير في الوثائق، وهؤلاء يعدون من وجهة نظر النظام الأمني، أقل خطورة من أولئك الذي أسسوا عصابات أو حركوا عصابات كانت نائمة بسبب نقص التمويل أو العوائد المالية المشينة. أمام هذه الحقائق، طالب قضاة علنا وزير المالية ريش سوناك بتفسيرات عن كيفية وصول أموال الدعم والقروض الميسرة إلى هذا النوع من المستفيدين.
والأمر ليس أفضل في بلدان أخرى. فـ"أموال كورونا" لم تصل كلها إلى مستحقيها. فهناك أيضا قضايا تعد بالآلاف على الساحة الأمريكية، تشبه ما حدث في بريطانيا وعدد كبير من دول أوروبا. رغم أن أنظمة الرقابة لديها تعد الأقوى والأكثر تقدما قياسا بأغلبية بلدان العالم. لكن من الواضح، أن المسألة لا تتعلق بآليات نظام الرقابة والتدقيق، بقدر ما ترتبط بالتراخي الذي حدث في مجال الرقابة بشكل عام. الأموال الحكومية التي عرضت على من يحتاج إليها في فترة الأزمة الاقتصادية المتوالدة من كورونا كانت هائلة. ففهي بريطانيا "مثلا" منحت 1.1 مليون شركة صغيرة قروضا تزيد على 47 مليار جنيه استرليني، وهذا لا يشمل بالطبع أموال الدعم التي ضخت في مؤسسات ذات صبغة سيادية نوعا ما. والأمر أكبر بالطبع في الولايات المتحدة.
المثير للسخرية حقا، أن بعض المحتالين الذي حصلوا على أموال دون وجه حق، استثمروها في معدات وأدوات مكافحة كورونا، أي أنهم اعتدوا حتى على عمليات شراء هذه المعدات والمواد التي تقوم بها الحكومات حول العالم مباشرة أو عبر موردين شرعيين مسجلين لديها، ويدفعون الضرائب ويوفون بالتزاماتهم. هناك كثير من الحالات الغريبة حدثت أعلنتها السلطات المختصة في أغلبية البلدان الغربية. ما يعزز الاعتقاد بأن "أموال كورونا" التي أخذت في الواقع من أموال الناس، استفاد من بعضها محتالون في كل المجالات غير المشروعة.