البنوك المركزية .. من المتعجل ومن المتخلف عن الركب
بعد شهور من ارتفاع معدلات التضخم في الاقتصادات المتقدمة الرئيسة، بدأت إحدى الروايات تترسخ. تقول الرواية إن بنك إنجلترا وبنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي "أن يصلا متأخرين خير من ألا يصلا أبدا" استيقظا على خطر التضخم ويتحركان أخيرا للتعويض عن الخسائر، في حين أن البنك المركزي الأوروبي يواجه مخاطرة أكبر كل يوم بالتخلف عن الركب.
هذا هو السبب في أن متداولي السندات فهموا "الموقف المتشدد" على أنه تغيير طفيف جدا في اللهجة من البنك المركزي الأوروبي، الذي أعرب عن "قلقه الإجماعي" بشأن التضخم، وبالتالي قام بتصفية سندات اليورو، ولا سيما تلك الخاصة بالحكومات ذات الديون المرتفعة. بالتأكيد، يبدو أن الأسواق تعتقد أن على البنك المركزي الأوروبي أن يصحح المسار قريبا - بل حتى أن يفرط في التصحيح. أليس كذلك؟
هناك حقيقة واحدة، الفرق بين منطقة اليورو والاقتصادات الكبيرة الناطقة بالإنجليزية مذهل. في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، لا يزال معدل التوظيف أقل بأكثر من 1 في المائة من مستواه قبل الجائحة وأقل بنحو 3 في المائة تقريبا من الاتجاه السابق للجائحة. ومع ذلك، بدأ كل من الاحتياطي الفيدرالي وبنك إنجلترا في تخفيف السرعة بشأن إجمالي الطلب. وفي منطقة اليورو، على العكس من ذلك، فإن نسبة الأشخاص العاملين هي الأعلى، ومعدل البطالة هو الأدنى، على الإطلاق. لكن يبدو أن البنك المركزي الأوروبي مطمئن من ناحية ضغوط سوق العمل.
هذا يبدو، في ظاهر الأمر، معكوسا. إذ سيكون من الطبيعي القلق بشأن السخونة الزائدة في سوق عمل تعافى تماما من الانكماش والرغبة في تسريع عجلة اقتصاد ولا يزال يعاني نقصا في الوظائف. المصرفيون المركزيون يفعلون العكس تماما. لكن، إضافة إلى الإشارة إلى أن البنك المركزي الأوروبي متخلف عن الركب، فقد يشير هذا على حد سواء إلى أن الاحتياطي الفيدرالي وبنك إنجلترا ربما يتصرفان بسرعة كبيرة.
تتمثل إحدى الطرق لفهم رسائل السياسات النقدية المقلوبة رأسا على عقب في افتراض أن الوظائف الأمريكية والبريطانية المفقودة قد ولت إلى الأبد - وأن الوضع الحالي هو أفضل ما يمكن الوصول إليه - في حين أن أوروبا القارية نجت من أي ندوب دائمة من الجائحة ولذلك يمكن أن نتوقع اتخاذ سياسة نقدية فضفاضة متواصلة.
هذا قابل للتصديق. فقد أدت برامج العمل قصيرة الأجل والبطالة المؤقتة على النمط الأوروبي دورا أفضل بكثير في إبقاء الناس مرتبطين بمكان العمل مقارنة بالزيادة الأمريكية المؤقتة لميزات البطالة وإنفاق "معونة الحماية" التي استفادت منها الجهات الخطأ. من جانبها، منحت المملكة المتحدة إجازة على النمط الأوروبي، لكن من البداية الثابتة لنظام كان يتبع المرونة على النمط الأمريكي عادة. ويمكن لهذا، إضافة إلى رحيل العمال الأوروبيين بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أن يفسر معدل التوظيف الراهن المخيب للآمال.
هناك تحذيران كبيران يخصان هذا التحليل. الأول هو كم سيكون مفاجئا، إذا كان هذا صحيحا. فالحكمة التقليدية، بعد كل شيء، هي أن أوروبا القارية، على الرغم من أنها أكثر حماية للعمال، إلا أنها أسوأ في تأمين الوظائف لهم من النموذج الأنجلو أمريكي الذي يتسم بالحب، خاصة في فترات التعافي بعد الركود. إذا كان هذا قد تغير الآن، فهو مدعاة لانتصار التقاليد الأوروبية الشمالية للحماية الاجتماعية.
يتعلق التحذير الثاني بحقيقة أن أرقام الناتج الاقتصادي تحكي قصة مختلفة عن أرقام سوق العمل. ذلك أن الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي حاليا أعلى بكثير من مستواه السابق للجائحة ويغلق على اتجاهه السابق للجائحة. وبينما استعادت منطقة اليورو مستوى الناتج المحلي الإجمالي قبل كوفيد أواخر العام الماضي، إلا أنه لا يزال أقل بكثير مما ينبغي أن يكون عليه على طريق النمو. "وبهذا المقياس، تبدو المملكة المتحدة أوروبية بشكل واضح".
وهذا يعني أن الولايات المتحدة حققت أفضل نمو إنتاجية بشكل استثنائي. وذلك يبرر التسامح مع النمو الأعلى للأجور أيضا، دون الخوف من دوامة الأجور والأسعار. ويعني نمو الناتج الضعيف نسبيا في أوروبا أنها أيضا ربما لا تزال لديها طاقة احتياطية للتعويض.
يصر السرد المحموم الذي يهيمن على النقاش اليوم على التأكيد على علامات السخونة الزائدة وتجاهل الطاقة الاحتياطية الفائضة - ولا سيما قدرة الاقتصاد على نشر القوى العاملة استجابة للطلب الكبير. وذلك بالضبط هو رد الفعل الذي تهدف المراجعات الأخيرة للاستراتيجيات من قبل الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي إلى إحباطه.
لقد راعى كلا البنكين المركزيين الدروس المستفادة من العقد الماضي، عندما أخفقت المخاوف من التحفيز النقدي المفرط "أو كان ينبغي أن تفعل ذلك" عندما لم تتحقق القيود المفترضة على نمو الوظائف. حتى إن البنك المركزي الأوروبي قد أيد رسميا تضخما مؤقتا أعلى مما هدف إليه لتأمين إمكانات الاقتصاد.
وفي وقت أقرب بكثير مما كان متوقعا، تواجه هذه المبادئ التي تم تبنيها من أجل مقاومة الضغوط نفسها. لكن في مثل هذه الأوقات يظهر صانعو السياسة النقدية همتهم. وبعيدا عن التخلف عن الركب، فإن محافظي البنوك المركزية الأوروبية في فرانكفورت هم الذين يبرهنون على كيفية ضبطهم لأعصابهم. في الوقت الحالي.