نزعة احتكارية .. هل تتصدع؟
المخاوف من القوة الاحتكارية لشركات التكنولوجيا العالمية ليست وليدة اليوم، لكن حدتها ارتفعت بوصول إدارة جو بايدن إلى البيت الأبيض، لأن هذا الأخير يعتقد ضرورة العمل على تفكيك هذه الشركات فعليا، ليس فقط لأسباب تتعلق بالإنتاج والابتكار، بل من ناحية المخاطر المالية في حال انهيارها، أو مواجهتها أزمات لا تقوى ربما على الصمود أمامها. حتى في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب، استهدف هذه الشركات، من جهة دفعها إلى إغلاق فروعها الإنتاجية العالمية والعودة إلى الولايات المتحدة، بإغراءات ضريبية أو تسهيلات أو ما شابه ذلك. أي أن شركات التكنولوجيا العملاقة مستهدفة حقا من كلا الحزبين الأمريكيين الديمقراطي والجمهوري، في حين لم يوفر الاتحاد الأوروبي مناسبة إلا وأشار إلى مخاطر تضخم الشركات على مختلف الأصعدة.
حتى في ظل إدارة ترمب المعروفة "بصداقتها" القوية مع الشركات بكل أنواعها، تحركت لجنة مكافحة الاحتكار في مجلس النواب الأمريكي، لتصدر تقريرا مهما حول احتكار هذه الشركات لصناعة التكنولوجيا عالميا، ما أدى بالفعل إلى تقليل الابتكار، واستخدام الكميات الضخمة من البيانات عن المستهلكين والشركات الأخرى للتغلب على منافسيها، واكتساب ميزة مهمة في أسواق المنتجات الجديدة. وهذا صحيح إلى أبعد الحدود، وهو معروف للجهات المختصة في كل الدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة، ورغم المحاولات الرامية إلى خفض معدلات احتكار الشركات المشار إليه، إلا أن النتائج أصبحت غائبة عن الساحة، وكثيرا ما تهدأ السلطات في توجهاتها هذه، إلا حين تحريكها من هذه الجهة أو تلك، أو لسبب ما.
لكن لا بد من الإشارة إلى أن الإدارة الأمريكية كانت واضحة بشأن ضرورة معالجة هذا الأمر، الذي عدته مشكلة متواصلة. ولا شك في أن استغلال وجود بايدن في الحكم، سيساعد الجهات التشريعية في نشاطها من أجل تقليل مستوى احتكار شركات التكنولوجيا العملاقة، بما في ذلك العمل على تفكيك هذه الشركات، لأنها ببساطة تتمتع بقوة ونفوذ على المستهلكين. أي أن هذا التفكيك يستهدف النفوذ والمخاطر المالية التي قد تصيبها في المستقبل.
شركات مثل: جوجل وأبل ومايكروسوفت وأمازون وفيسبوك، تتصدر المشهد الاحتكاري حاليا. وتم تحذيرها في الواقع على مدى أكثر من ثلاثة عقود، خصوصا مع ظهور بعض الفضائح عن تسريب بيانات مستهلكين لديها، دون علم هؤلاء، فضلا عن تعرضها لقراصنة تخصصوا في سرقة البيانات وبيعها لمؤسسات وشركات تحتاج إليها.
المثير في الأمر، أن كل شركة من الشركات الرئيسة في الساحة التكنولوجية، تمتلك ما لا يقل عن 89 في المائة من حصة السوق في أعمالها الخاصة. وهي نسبة خطيرة تمتلكها جهة واحدة، بصرف النظر عن طبيعة هذه الجهة. إنها ضخمة إلى درجة أن تمثل الشركات الخمس المشار إليها 20 في المائة من إجمالي الأرباح المتراكمة بواسطة مؤشر "إي آند بي 500" بحلول 2023. في حين تبلغ القيمة السوقية لها في الوقت الراهن 7.6 تريليون دولار، بينما يتوقع مختصون أن مبيعاتها ستتضاعف في العقد المقبل.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن شركات التكنولوجيا العملاقة أعدت العدة منذ أعوام لمواجهة أي هجوم عليها من جهات الاحتكار ومخاطر الأزمات المالية، ولا سيما أنها تتمتع برؤوس أموال مضمونة من حيث التدفق والحجم. فالحراك الهادف إلى إضعاف مخططاتها الاحتكارية وتفكيكها، لن يكون سهلا، لكن الإدارة الأمريكية يمكنها أن توفر الأدوات اللازمة، انطلاقا من قناعتها المسبقة بمخاطر ترك هذه الشركات تواصل احتكارها وترفع من وتيرته وتوسع نطاقه على الساحة الدولية كلها.