حقوق السحب الخاصة .. طوق نجاة لخروج الاقتصادات النامية أم منحة للدول الغنية؟

حقوق السحب الخاصة .. طوق نجاة لخروج الاقتصادات النامية أم منحة للدول الغنية؟
التقدم نحو أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030 انحرف عن مساره.

مع تفاقم التداعيات الاقتصادية لتفشي وباء كورونا عالميا، وأزمتي المالية والسيولة التي اجتاحت عديدا من الاقتصادات النامية والناشئة على حد سواء، شكلت "حقوق السحب الخاصة" لصندوق النقد الدولي طوق نجاة لكثير من تلك الاقتصادات.
ومع اتساع نطاق الاعتماد عليها باتت جزءا مهما من النقاش العالمي الراهن حول قدرتها على إنعاش الاقتصاد الدولي وإعادته إلى سابق عهده.
تواكبت الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الوباء مع التزامات وتعهدات دولية لعديد من الدول منخفضة الدخل بتقليص الإنفاق العام لضبط الميزانية، وتوجيه جزء كبير من مواردها المالية لسداد أموال الدائنين، وكان لذلك تأثير سلبي - في أحيان كثيرة - في قدرتها في تخصيص جزء أكبر من مواردها للقطاع الصحي لمواجهة الجائحة.
وخلال عام ونصف العام تقريبا، لم تتسم الجهود متعددة الأطراف بقدر كاف من العمل المشترك لمواجهة الأبعاد الصحية والاقتصادية لأزمة كورونا، خاصة في الاقتصادات الناشئة والنامية، وترافق هذا الإخفاق في العمل الدولي الجماعي مع نقص في المساعدات المالية وقصور في توفير التمويل المالي محليا، نتيجة نقص السيولة المالية المطلوبة للتعامل مع العواقب السلبية لفيروس كورونا.
وزاد الوضع تعقيدا، التوزيع غير المتكافئ للقاحات، وظهور متغيرات جديدة من فيروس كورونا، ما يهدد بإطالة أمد الأزمة. ومع استمرار وتزايد الضغوط الواقعة على الاقتصاد العالمي خاصة الاقتصادات النامية والناشئة، فإن التقدم نحو أهداف التنمية المستدامة بحلول 2030 انحرف عن مساره، وتراجعت قدرة عديد من الدول في تحقيق تلك الأهداف.
في هذا السياق، يجري نقاش مستفيض حاليا حول دور حقوق السحب الخاصة وقدرتها على المساعدة على إخراج الاقتصاد العالمي خاصة الاقتصادات الصاعدة والنامية من أزمتها. وازداد النقاش سخونة منذ موافقة مجلس محافظي صندوق النقد الدولي في مطلع آب (أغسطس) الماضي على توزيع ما يعادل 650 مليار دولار من وحدات حقوق السحب الخاصة على الدول الأعضاء لدعم السيولة العالمية، وسد النقص في احتياطات الدول الأعضاء من النقد الأجنبي، وخفض اعتمادها على الديون المحلية أو الخارجية الأكثر تكلفة.
ولكن قبل المضي قدما لمعرفة القدرات الحقيقية لحقوق السحب الخاصة في تحقيق تلك الأهداف، فإن السؤال الذي سيطرح نفسه يتعلق أساسا بماهية حقوق السحب الخاصة وطبيعتها؟
روبين كريس، رئيس وحدة التحليل المالي في بنك لويدز، يقول لـ"الاقتصادية": إن حقوق السحب الخاصة تعد أصلا احتياطيا دوليا صادرا عن صندوق النقد الدولي، مشيرا إلى أنها لا تعد أموالا بالمعنى الكلاسيكي، حيث إنه لا يمكن استخدامها في شراء الأشياء مباشرة، وإنما هي وحدة محاسبة لمعاملات صندوق النقد مع الدول الأعضاء، وتتغير قيمة عملة حقوق السحب الخاصة يوميا، ويمكن للدول الاستبدال الطوعي لحقوق السحب الخاصة بها مقابل عملات قابلة للاستخدام بحرية، وذلك وفقا لسعر الصرف الثابت مع أعضاء صندوق النقد من الدول الأخرى، وتستند قيمة وحدة السحب الخاصة إلى سلة من العملات الخمس الرائدة في العالم، وهي: الدولار، اليورو، الجنيه الاسترليني، الين، واليوان.
وأوضح أن "الاحتياطات الدولية تشبه حسابات التوفير الوطنية الكبيرة بالعملات الأجنبية، التي تضمن أن البلد لديه العملات الأجنبية التي يحتاجها في التداول مع العالم الخارجي لدفع الواردات على سبيل المثال، وإضافة حقوق السحب الخاصة إلى الاحتياطات الدولية لبلد، ما يجعلها أكثر مرونة من الناحية المالية خاصة في أوقات الأزمات".
تلك المرونة تحديدا هي ما تساعد في الأوقات العصيبة التي يمر بها الاقتصاد الدولي حاليا، فنحو 150 دولة حول العالم سيكون دخل الفرد فيها في هذا العام أقل ما كان عليه 2019، ما يجعل لحقوق السحب الخاصة أهمية فريدة الآن. وقام صندوق النقد الدولي ومنذ تأسيس آلية حقوق السحب الخاصة في تشرين الأول (أكتوبر) 1969 بتوزيع 660.7 مليار وحدة سحب خاصة أي ما يوازي 935.7 مليار دولار.
يرى بعض الخبراء، أن حقوق السحب الخاصة تلعب دورا مهما في استقرار الاقتصاد الكلي في أوقات الأزمات، وتلبي الاحتياجات العاجلة لميزان المدفوعات، بتحويل تلك الحقوق إلى عملة دولية، في الوقت ذاته تكون الدول التي حصلت على حقوق سحب خاصة، مطالبة بدفع سعر فائدة إلى صندوق النقد الدولي. وبالنظر إلى أن سعر الفائدة الأساسي لا يزال عند مستوى قياسي منخفض، فإن استخدام حقوق السحب الخاصة يمثل ذراعا إضافية لتعزيز قدرات الدولة على الاقتراض مقابل أسعار فائدة تقل عن الأسعار السائدة في الأسواق الدولية.
مع هذا، يعتقد خبراء آخرون أن حقوق السحب الخاصة لم تلعب تاريخيا الدور المنوط بها في الاقتصاد الدولي، وذلك بسبب عيوب في تصميم آليات التخصيص وارتباطها بحصص المساهمة المالية بدلا من توزيعها حسب الحاجة، ونتيجة هذا النظام، فإن 60 في المائة تقريبا من حقوق السحب الخاصة يذهب في واقع الأمر إلى الدول الغنية، بينما تتلقى الدول الفقيرة النسبة الأقل.
بدوره، يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور ليام كونور أستاذ الاقتصاد الدولي، "الوضع الحالي لحقوق السحب الخاصة أقرب إلى القيام بمنح الأغنياء الأولوية في الإقراض مقارنة بالفقراء، وهذا برز بشكل واضح في القرار الأخير لصندوق النقد الدولي بتوزيع 650 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة، إذ ستذهب 275 مليار دولار من المخصصات إلى الاقتصادات الناشئة والدول النامية، بينما ستحصل الدول منخفضة الدخل على 21 مليار دولار، ولأن حقوق السحب الخاصة مرتبطة بنسب المساهمة وليس بالحاجة، فإن الجزء الأكبر من المبلغ الذي رصده صندوق النقد الدولي سيذهب للاقتصادات المتقدمة، التي تعد في حاجة أقل حدة لتلك الأموال مقارنة بالدول الفقيرة".
ومع إدراك المسؤولين في صندوق النقد لهذا الخلل، وإعاقته عمليا القدرة على تعظيم المنفعة الاقتصادية من حقوق السحب الخاصة، خصوصا في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها الدول النامية وأغلب الاقتصادات الناشئة، فلم يكن أمامها سوى الالتماس من الدول الغنية التي تواجه أوضاعا اقتصادية أفضل نسبيا من الاقتصادات الأخرى، القيام بعملية تحويل طوعية لبعض حقوق السحب الخاصة بها إلى الدول الأكثر احتياجا.
من هذا المنطلق ينادي بعض الخبراء، بوجوب إقراض حقوق السحب الخاصة للدول منخفضة ومتوسطة الدخل دون شروط، مع إيلاء الاهتمام لكيفية إنفاقها لما تحصل عليه من حقوق السحب الخاصة.
وتبدو الدعوة إلى إعادة تدوير حقوق السحب الخاصة، والتركيز أكثر على الدول متوسطة الدخل منطقية في ضوء أن تلك الدول موطن لأكثر من 75 في المائة من سكان العالم، وأغلب فقراء الكرة الأرضية، كما أن 96 في المائة من الدين الخارجي لجميع الدول النامية باستثناء الصين والهند يقع على كاهل تلك الدول.
مع هذا، فإن الأمر لا يخلو من اعتراضات لها منطقها أيضا، حيث جزء منها ينصب على فكرة حقوق السحب الخاصة ذاتها، ويرى بعض الاقتصاديين أن حقوق السحب لم تعد في كثير من الأحيان دواء شاف، وأنه يجب ألا تمنح للدولة لمجرد وجود أزمة اقتصادية فيها أو أنها تعاني نقصا في السيولة، وإنما يجب أن تكون مكافأة للدول التي تمضي قدما في برنامج الإصلاح الاقتصادي لدعمها على المضي في نهجها الإصلاحي، أما الدول التي ترجئ الإصلاحات المالية فلا يجب أن تحصل على مساعدات غير مشروطة من الصندوق بدعوى المساعدة على تجاوز العاصفة.
ويرى خبير مختص في شؤون صندوق النقد الدولي - فضل عدم ذكر اسمه - في تلك الرؤية شكل من أشكال الوصاية الدولية على الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، مشيرا إلى أنه يوجد شعورا وطنيا غير محبذ لبرامج الإصلاح الاقتصادي بحسبانها شكلا من أشكال الهيمنة والتدخل الخارجي من قبل المؤسسات المالية الدولية.

الأكثر قراءة