بين السببية والغيب في تفسير الحوادث الاقتصادية
ترى طائفة من الكتاب والمفكرين الإسلاميين أن علم الاقتصاد economics، غير مقبول إسلاميا، من منطلق أنه لا يأخذ بالتفسيرات التي مصدرها الوحي. خذوا المثل التالي: جاء في صحيح البخاري أن لصلة الرحم تأثيرا حسنا على الرزق (الدخل بالتعبير الشائع). هذا التأثير لا مجال لأن ندركه بالرجوع إلى الكون، وإنما عرفناه من الوحي، ولكن علم الاقتصاد (أعني كما يدرس في جامعات العالم) يقوم على السببية والتعليل استنادا إلى الكون، بينما لا يعطي اعتبارا للوحي. ولهذا يرى أولئك الكتاب أن علم الاقتصاد (الذي يسميه بعضهم الاقتصاد الوضعي)، غير مقبول إسلاميا. فما مدى دقة ما يقولونه؟
الانتقاد السابق ينطبق حقيقة على كل العلوم التي تدرس في جامعات العالم كالفيزياء، الكيمياء، علم النفس، علوم الطب، التغذية، الزراعة، الهندسة، والتربية... إلخ. فعلى سبيل المثال، طالب الطب لا يدرس في مدرسة الطب أن لصلة الرحم تأثيرا على العمر.
أخرج البخاري بسنده عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره، فليصل رحمه". ينسأ بضم أوله أي يؤخر، وقوله في أثره أي في أجله.
التعبير بمن أحب البسط في الرزق والتأخير في الأجل فليصل رحمه، تعبير نبوي، لا يجوز نفيه، ولكن في الوقت نفسه، يجب أن نعرف أن هذا لا ينافي فعل الأسباب المادية المؤدية بتوفيق الله إلى بسط الرزق وإطالة العمر.
وهناك نصوص أخرى كثيرة وردت في حصول الشفاء والعلاج، ولكن طلاب الطب لا يدرسونها. وكونها كذلك لا يعني بالضرورة خطأ ما يدرسونه، أو أنه غير مقبول إسلاميا.
ولذا فإنه لا يقبل تعميم القول بعدم القبول الإسلامي لتأسيس علم الاقتصاد على أن مصدر المعرفة هو الكون. فقد يفهم تخطئة المعرفة التي مصدرها الكون، وهذا غير صحيح، ولو كان صحيحا لحق لنا أن نعمم القاعدة، ونعتبر كل العلوم غير مقبولة إسلاميا، لأنها تأسست على مصدر يعطي نتائج خاطئة. ذلك لأن ما تتوصل إليه العلوم الطبيعية أو الاجتماعية ـ التي شهد لها الحس أو العقل شهادة قـاطـعــة أو قام عليه دليل راجح هي مما يعد ـ بميزان الشرع ـ علماً يعمل به. والإيمان بما تتوصل إليه هذه العلوم أمر مشترك بين البشر، بغض النظر عن الديانة.
وقد قضى الشرع أن كـل المعارف ـ ديـنـيـة كـانــت أم دنيوية ـ إنما يكتسبها الإنـســان بحسه وعقله. ومن ذلك قوله سبحانه: "واللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" النحل، 78.
لكن لو قيل أنه لا يكفي الركون إلى الكون وحده لكان أوضح وأصوب. ذلك لأنه يجب التسليم أيضا أن الله على كل شيء قدير، وأن هناك مؤثرات تدرك بالوحي وليس الكون. ولكن الإيمان بالغيب لا يعني إنكار تأثير المؤثرات الاقتصادية (وغيرها). قد لا نكون محيطين إحاطة تامة بكنه وطبيعة كل المؤثرات (ولو الأساسية على الأقل)، وكيف تعمل وتتفاعل، ومن ثم قد يصعب أحيانا التنبؤ الجيد بحجم وقوة أزمات ومشكلات متوقعة. وفي هذا الإطار، قد يعطي الوحي إشارات إلى نتائج، لا ندرك بعد أسبابها (تفسيرها المادي) جيدا. إلا أن ذلك لا يعوقنا عن محاولة فهم الأسباب والأخذ بها، والنصوص أرشدت إلى ذلك، كقوله سبحانه (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل)، وقوله (وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى وأنّ سعيه سوف يُرى). والأخذ بالأسباب هو هدي سيد المتوكلين على الله.
وهنا أشير إلى حديث اشتهر على ألسنة الناس، وهو ما رواه أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رجل: يا رسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "اعقلها وتوكل" رواه الترمذي وحسنه الألباني. ومعنى الحديث واضح وصحيح، فمن علّم أحدا كيف يعقلها، فقد علّمه شيئا صحيحا مفيدا، ومن ثم فهو مقبول إسلاميا، ولكنه لم يعلّمه كل المطلوب، إذ هناك الجزء الغيبي القدري، وقد قرر علماء الإسلام ـ رحمهم الله تعالى ـ أنه لا تعارض بين السببية والقدر، وألا تعارض بين العقل والنقل.
نفي الأسباب قدح في العقل، وينطبق ذلك على تفسير أحداث الاقتصاد، ولكن الركون إلى الأسباب وحدها قدح في النقل أي الوحي. وفي هذا الإطار نفهم النصوص الدالة على محق الربا. وبالله التوفيق،،،