خيارات النظام الإيراني تتقلص خارج حدوده
يواصل مشروع الهيمنة الإيراني إخفاقه في المنطقة العربية، حيث كانت إيران قبل إطلاق مشروعها للهيمنة الإقليمية بعد "الربيع العربي" أقل عرضة للمخاطر، وكانت مصادر التهديد للأمن الإيراني الداخلي تنحصر في بعض الهجمات المحدودة وغير المؤثرة للأكراد والمتمردين السنة في إقليم سيستان وبلوتشستان، وبعض العمليات المحدودة جدا للمقاومة الإيرانية المتمثلة فيما يعرف بمجاهدي خلق، أما اليوم فقد نتج عن طموحها التوسعي المبني على التمدد الطائفي في دول عربية، انكشافها أمنيا، خصوصا خلال العامين الأخيرين 2020 و2021، إذ تعرضت إيران لأكثر من 600 هجوم، واختراق أمني نتج عنها عشرات القتلى بينهم عالم نووي، وقيادات أمنية وعسكرية بارزة، إضافة إلى تخريب عديد من المنشآت الحساسة والاستراتيجية.
كما تعرض البرنامج النووي الإيراني لاختراق أمني، نتج عنه نقل نصف طن من وثائقه إلى إسرائيل، وبينما زعمت إيران أنها اقتربت من المنطقة من أجل المقاومة وتطويق إسرائيل باتت إسرائيل اليوم هي التي تطوق إيران. كل ذلك يعني أن إيران كانت أكثر أمنا بكثير قبل خروجها إلى أربع دول عربية بدعوى تحقيق الأمن.
المتغيرات التي شهدتها المنطقة والعالم بسبب مشروع الهيمنة الإيراني ليست في مصلحة النظام الإيراني، بل هي في معسكر تضييق الخناق عليه، ليكون الشعب الإيراني المتضرر الأكبر من النظام الحاكم في بلاده، لكن المعممين في طهران لا يرونها ولا يدركون خطورتها، كما أن الغرب، الذي يقف موقف الحياد من تجاوزات إيران، قد يتسبب دون أن تشعر إيران بشأن خطورة ما تقوم به في كل سياستها التوسعية، بنشوب الحروب الكارثية والمدمرة في المنطقة. إن سوء التقدير هذا يدخل المنطقة في مخاطر يصعب على العالم السيطرة عليها، وأكثر من يدفع ثمنها الشعب الإيراني، كل شيء يتأثر في المنطقة بمجرد خروج إيران عن الدور الطبيعي للدول، لا يتأثر الغرب فقط بالضرر المتوقع من توقف صادرات النفط، بل سيزداد الوضع سوءا بعد أن تخرج الميليشيات الطائفية عن طوعها، لتصبح كل مصالح العالم في المنطقة عرضة للاستهداف.
السخاء الإيراني مع الميليشيات التابعة له في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية، التي يعيشها الشعب الإيراني أدى إلى ارتفاع منسوب النقمة الشعبية الداخلية على النظام، إضافة إلى ضياع الأموال الطائلة التي بعثرها النظام على الحروب والمؤامرات، وعلى تأسيس الميليشيات وتمويلها وتسليحها، وكذلك بسبب تفاقم أزمة البطالة، ونقص فرص العمل، وتدني مستوى المعيشة بفعل فشل السياسات الحكومية وتفشي فيروس كورونا والعقوبات الأمريكية الخانقة.
خيارات النظام الإيراني محدودة، فهو مجبر على التخلي عن وجوده في اليمن ولبنان وسورية، إذا ما وجد الاحتفاظ به هناك يكلفه أكثر من مردوده السياسي أو العسكري أو الاقتصادي، إيران اليوم ليست محدودة بالحدود الجغرافية، فاليوم الحشد الشعبي ممثل لإيران في العراق، حزب الله في لبنان ممثل لإيران، أنصار الله في اليمن ممثل لإيران، الجبهة الوطنية في سورية ممثل لإيران، وفصائل فلسطينية مسلحة مدعومة من إيران، رهن إشارتها، وجميع هذه الكيانات لديها قاسم مشترك في دولها، هو الإجماع الوطني على رفضها، في حين إن إيران مستعدة للتضحية بأي منها في سبيل الخروج من الأزمات المحيطة بها.
وما يزيد الطين بلة، ما سجلته أرقام البنك الدولي بأن حجم الناتج القومي الإيراني تراجع إلى 192 مليار دولار في 2020، متراجعا نحو 457 مليار دولار مقارنة بـ2016، ما يعني انخفاضا بنحو 57 في المائة من إجمالي الناتج القومي في أربعة أعوام فقط، ويجعل ذلك الاقتصاد الإيراني في المرتبة 52 بين الاقتصادات العالمية من حيث الحجم، بعد أن كان في المرتبة 21 عالميا، وكانت إيران على بعد خطوة من الانضمام إلى مجموعة العشرين، وفي مقارنة بسيطة يعادل الناتج القومي لدولة الإمارات العربية المتحدة تقريبا ضعف الناتج القومي الإيراني، حال إن عدد سكان إيران نحو 80 ضعف عدد سكان الإمارات، أما الناتج القومي للمملكة العربية السعودية فيعادل نحو أربعة أضعاف الناتج القومي لإيران.
يبقى العراق الحصان الأسود، الذي يراهن عليه صناع السياسة الإيرانية في حال خسروا كل نفوذهم الخارجي، فهم غير مستعدين للتخلي عن العراق حتى لو خاضوا من أجل الاحتفاظ بهيمنتهم عليه حربا جديدة لا تقل دموية ومدة عن حربهم الأولى عليه، التي امتدت لثمانية أعوام، وعجزوا عن احتلاله في نهايتها، رغم كل هذه الميليشيات وسلاحها وحملات القمع والترويع التي يقومون بها لإرهاب المعارضين، ورغم جميع الإغراءات وعمليات شراء ذمم الانتهازيين من السنة والكرد لم ينعم الاحتلال الإيراني يوما واحدا بهدوء وبراحة بال، والفضل يعود إلى وعي الشباب العراقي.
الشعب العراقي اليوم مدرك أكثر من أي وقت مضى للضرر الوطني والسياسي، الذي تشكله الميليشيات المعروفة بـ"الحشد الشعبي" على مستقبل البلاد، فهم سيتعاطفون مع أي قوة تعمل على إنهاء سطوة المجاميع الفاسدة، وهذا عامل مساعد للدولة في أي مواجهة، كما أن قادة الميليشيات يدركون أن إيران على وشك استبدالهم بآخرين بعد الهزيمة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، فهي تريد ممثلين شركاء حقيقيين يراقبون ما يجري في الحكومة العراقية، وليسوا مطرودين منها، وهم اليوم في حاجة إلى إثبات وجود لتأكيد الولاء لطهران.
ورقة الصدام الميليشياوي مع الحكومة العراقية وضعت على طاولة الحشد الشعبي، بمجرد إعلان نتائج الانتخابات، ومما يسعد الحشد الشعبي بذلك أن نوري المالكي الذي حظي بنسبة جيدة إلى حد ما من المقاعد في البرلمان، يدرك أنه لا بد أن يضمن حصة مؤثرة داخل مركز القرار الحكومي، التي ستكون بداية نهاية مسيرته السياسية، التي شهدت كثيرا من الاضطرابات على حساب العراق لمصلحة إيران، ليكون العراق بوابة الشرق التي سيخرج مشروع الهيمنة الإيراني منها دون رجعة.