«بوليكست» ينذر بفرط عقد الاتحاد الأوروبي .. والنزاع الاقتصادي في قلب الصراع الراهن
على وزن مصطلح "بريكست" الذي يشير إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ينتشر تدريجيا في أوروبا حاليا مصطلح "بوليكست" في إشارة إلى احتمال خروج بولندا من "عقد" الاتحاد الأوروبي المهدد بالانفراط.
يوم بعد آخر تتعقد المشكلات وتتفاقم بين بولندا وبروكسل مقر الاتحاد الأوروبي، ويوم بعد آخر يتزايد التراشق السياسي وترتفع حدة التهديد الاقتصادي بين الطرفين. وزيرا خارجية ألمانيا وفرنسا وبحكم قيادة البلدين للاتحاد، لا يتورعان في توجيه سهام النقد المختلط بالتهديد لرئيس الوزراء البولندي ماتيوش مورافيتسكي، مؤكدين أن عضوية الاتحاد تتطلب الالتزام الكامل وغير المشروط بالقيم والقواعد المشتركة.
وهذا الالتزام يتجاوز القيم الأخلاقية إلى الاشتراطات القانونية، مذكرين القوى الداعية لخروج بولندا من الاتحاد، أنه بفضل مليارات اليوروهات التي ضخها الاتحاد للاستثمار في بولندا، ومليارات أخرى منحت لحكومة وارسو طوال أعوام عضويتها في الاتحاد، وفتح الأسواق الأوروبية للمنتجات البولندية، والسماح للأيدي العاملة البولندية بالعمل في جميع دول الاتحاد، فإن شكل البلاد واقتصادها تغير بصورة جذرية، وانضمت بولندا إلى دول الدخل المرتفع في وقت قصير مقارنة بالدول الأخرى ذات الدخل المتوسط.
وبالفعل فإنه بين عامي 2009 و2019 بلغ متوسط معدل النمو السنوي لبولندا 3.6 في المائة، ويرجع ذلك لزيادة الإنتاجية بشكل مطرد وتعزيز المؤسسات والاستثمار في رأس المال البشري وتحرير الاقتصاد من القيود البيروقراطية، وفتح الآفاق للقطاع الخاص.
وعلى الجانب الآخر لا تلتزم القوى المناوئة للاتحاد الأوروبي في بولندا الصمت، إذ تواصل حشد قوتها وتأجيج المشاعر الوطنية على أمل أن تلحق بولندا بالمملكة المتحدة وتغادر الاتحاد الأوروبي إلى غير رجعة.
وبات الحديث عن ضرورة التكاتف لمحاربة "المحتل الأوروبي" حديثا أكثر ذيوعا وأشد شيوعا في بولندا حاليا أكثر من أي وقت مضى، مع اتخاذ النموذج البريطاني مثالا يحتذى به، وسط استعدادات متزايدة من خصوم الاتحاد الأوروبي، بتوجيه ضربتهم النهائية للمطالبة بالخروج التام، بمجرد أن تضطر بولندا إلى دفع مزيد من الأموال في ميزانية الاتحاد أكثر مما تجنيه من عضويتها في ذلك النادي الأوروبي.
ولكن السؤال الذي يجادل فيه أنصار البقاء ومؤيدو الخروج، هل يمكن للاقتصاد البولندي أن يصمد ويحافظ على مستوى المعيشة الذي تحسن بفضل نيل عضوية الاتحاد الأوروبي، إذا خرجت بولندا من الاتحاد؟ المشكلة تفجرت عندما قضت المحكمة الدستورية البولندية بأن بعض أحكام معاهدات الاتحاد الأوروبي وبعض أحكام محاكم الاتحاد الأوروبي تتعارض مع الدستور البولندي، ما يضع البلاد في مسار تصادمي مع الاتحاد، إذ إن سيادة قانون الاتحاد الأوروبي على القانون الوطني شرط ضروري للعضوية في الاتحاد، وهذا تحديدا ما حرص الجانب الألماني والفرنسي على تذكير القيادة البولندية به.
رئيس الوزراء ماتيوش مورافيتسكي زعيم حزب القانون والعدالة الحاكم رحب بالحكم الذي يصب في صالحه، إذ يمنحه صلاحيات تساعده في تشكيل المشهد الداخلي وفقا لرؤيته، وبذلك يستطيع التخلص من العراقيل التي يواجهها من قبل قوانين الاتحاد الأوروبي، لكنه في الوقت ذاته عد أن الحديث عن "بولكست" حديث تروج له المعارضة، على الرغم من تأكيد المعارضة أن الحزب الحاكم وأنصاره من القوى السياسية يخططون للخروج.
الدكتور أيستون ديفي أستاذ الاقتصاد الأوروبي في جامعة لندن يرى أن خروج بولندا من الاتحاد الأوروبي غير واقعي، وأن المعركة ستحسم لمصلحة البقاء.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "لا شك أن هناك بعدا سياسيا وقانونيا للخلاف، لكن النزاع الاقتصادي بين بروكسل ووارسو في قلب الصراع الراهن، فالمفوضية الأوروبية لم توافق حتى الآن على خطة بولندا للتعافي من كوفيد - 19 البالغة 57 مليار يورو، ستقسم إلى 23 مليار يورو منح و34 مليار يورو في شكل قروض، فتلك الأموال الحكومة البولندية في أشد الحاجة إليها لتنفيذ خطة الإصلاحات التي ترغب فيها، وخاصة أن الانتخابات العامة ستجرى في 2023، ومن ثم فهي بحاجة إلى تلك الأموال لتعزيز شعبيتها".
ويضيف "يصعب تصور تحقيق "بولكست"، فبولندا لا تتمتع بالقوة الاقتصادية التي تتمتع بها المملكة المتحدة، وأي اقتصادي يتوقع خروجا بولنديا من الاتحاد الأوروبي على الطراز البريطاني سيصاب بخيبة أمل، فبريطانيا هي سادس أكبر اقتصاد في العالم أما بولندا فتحتل المرتبة الـ22".
ويعد دعم الاتحاد الأوروبي لبولندا من بين أعلى المعدلات في الاتحاد، فعلى سبيل المثال تلقت بولندا بين عامي 2007 و2013 أكثر من 67 مليار يورو من ميزانية الاتحاد الأوروبي أنفقت على إنشاء طرق جديدة ومطارات وتحديث المناطق الريفية، وبين عامي 2014 و2020 تلقت بولندا 106 مليارات يورو من ميزانية الاتحاد من بينها 28 مليار يورو وجهت لتطوير القطاع الزراعي، بينما استخدمت باقي الأموال في تطوير مجالات البحث العلمي والنقل العام بما فيها السكك الحديدية، ورقمنة الاقتصاد الوطني عبر توسيع شبكة الإنترنيت وتطويرها.
من جانبه، أشار راهول أرثر الباحث الاقتصادي في مجال التنمية الاقتصادية إلى أنه في 2018 ذهب ما يقرب من 80 في المائة من الصادرات البولندية إلى الاتحاد الأوروبي، وجاء 58 في المائة من الواردات البولندية من السوق الداخلية للاتحاد الأوروبي، 88 في المائة من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر تأتي من الاتحاد الأوروبي، وأسهمت أموال الأوروبيين ومشاركة وارسو في السوق الموحد بشكل كبير في زيادة الثروة لدى البولنديين.
وزاد دخل الفرد 45 في المائة من متوسط الاتحاد الأوروبي 2014 إلى 70 في المائة بحلول 2017 إضافة إلى آلاف من العمال البولنديين المهاجرين يعملون في دول الاتحاد الأوروبي، وتأخر المفوضية الأوروبية في تمويل الإصلاحات الاقتصادية التي لن تستطيع بولندا المضي قدما فيها دون المساعدات المالية الأوروبية سيضعف تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في قطاعها الرئيس مثل الطاقة والبنية التحتية، حيث يعمل آلاف البولنديين في صناعة التعدين.
ويخلص راهول أرثر إلى أن "بولكست" سيكون شديد التكلفة الاقتصادية على بولندا وسينجم عنه مخاطر حقيقية تؤدي إلى ارتداد حاد في معدلات نمو الاقتصاد البولندي، بما يرافق ذلك من عدم الاستقرار السياسي وعزلة في المحيط الإقليمي".
مع هذا فإن دعوات "بولكست" تجد داعمين لها في المملكة المتحدة، مؤكدين أن لدى الاقتصاد البولندي القدرة على مواصلة النمو حتى بعد خروجه من الاتحاد الأوروبي، ففي 2019 نما الناتج المحلي الإجمالي لبولندا 4.1 في المائة مدفوعا بارتفاع الأجور وزيادة الاستهلاك المحلي، وإذا كان النمو الاقتصادي تراجع العام الماضي نتيجة وباء كورونا، فإن الأمر ظاهرة عالمية.
ويتوقع البنك الدولي عودة النمو تدريجيا في بولندا بحيث سينمو الاقتصاد هذا العام 2.2 في المائة وفي العام المقبل 2.9 في المائة، ومن ثم يرى أنصار "بولكست"، أن بولندا بات لديها أرضية اقتصادية قوية يمكن البناء عليها بعد الخروج من عضوية الاتحاد ويشير هذا التيار إلى أن بولندا سيكون لديها قدرة أكبر على تشكيل جبهة من التحالفات الإقليمية الاقتصادية التي ستساعد على انتعاش الاقتصاد الوطني.
وما يعرف بـ"مبادرة البحار الثلاثة" التي تهدف إلى ربط الدول بين بحر البلطيق والبحر الإدرياتيكي والبحر الأسود في منظومة اقتصادية موحدة يمثل أرضية جيدة لصياغة علاقات اقتصادية جديدة وقوية تسمح لبولندا بمواصلة انتعاشها الاقتصادي، كما أن هناك طروحات أخرى بتشكيل مجموعة "فيزيجراد" وتضم في عضويتها كل من بولندا، سلوفاكيا، المجر، والتشيك، التي تمثل تحالفا اقتصاديا أقل عددا، لكن أكثر اتفاقا وترابطا اقتصاديا وثقافيا.
ويعلق لـ"الاقتصادية" الباحث الاقتصادي دي.آر. هاردي الخبير في الشأن الأوروبي وأحد المؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قائلا "المشكلة الرئيسة التي ستؤدي حتما إلى خروج بولندا من منظومة الاتحاد الأوروبي لا تكمن في المساعدات المالية أو الأسواق، وإنما يوجد اختلاف في منظومة القيم بين الطرفين، إذ يشعر خصوم الاتحاد الأوروبي في الداخل البولندي، أن هناك محاولة لفرض قيم الاتحاد على بولندا المحافظة.
وهذا الخلاف القيمي ينعكس أيضا على الاقتصاد، اذ رفضت بولندا أخيرا استراتيجية الذكاء الاصطناعي للاتحاد الأوروبي، لأنها تضمنت كلمة عن حقوق فئات اجتماعية ترفض بولندا منحهم الحقوق التي يدعو إليها الاتحاد، ومن ثم مكون القيم يجعل من الصعب على وارسو إيجاد أرضية مشتركة مع الأوروبيين".