صراع اقتصادي متنامي بين بريطانيا وأوروبا.. واشنطن تصب الزيت على النار
يصعب حاليا أن تتصفح صحيفة بريطانية وتجد خبرا إيجابيا عن علاقة المملكة المتحدة بالاتحاد الأوروبي، فمنذ الطلاق البائن بينهما وخروج لندن من عضوية النادي الأوروبي وأغلب الأخبار والتعليقات بشأن الأبعاد المختلفة لتلك العلاقة الثنائية تشي بأن الأمور آخذة في التدهور، وأن القادم من الأيام قد يكون أكثر رمادية.
وبعد أن كانت التعليقات والتحليلات تتمحور حول سبل التعاون بين الطرفين مستقبلا، انتقلت في مرحلة لاحقة إلى تساؤلات من قبيل، هل ستبنى العلاقة على أسس تنافسية أم تعاونية؟ لينتهي بها المطاف حاليا بتساؤلات حول طبيعة الاستراتيجية والتكتيكات الواجب على بريطانيا اتباعها لكسب معركتها مع الأوروبيين.
المشكلة تزداد تعقيدا بين الجانبين، لأنها باتت تمتد إلى مجالات أوسع وأكبر وأكثر خطورة، فالخلاف لم يعد محصورا في نزاعات حول حقوق الصيد البحري على الرغم من أهميتها، أو تهديدات بقطع فرنسا الكهرباء عن الجزيرة البريطانية على الرغم من جديتها، بل انتقلت من التشكيك في النيات إلى تصريحات تحمل مزيجا من الإحباط والروح العدائية عندما يتعلق الأمر بوضع أيرلندا الشمالية في اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وبمرور الوقت بات الحديث الدائم عن إنشاء خط ساخن للطوارئ بين لندن وبروكسل للتعامل مع التوترات الناشئة بين الجانبين، يمنح العلاقة ملمحا من ملامح حرب باردة، تكشف مدى تباعد الجانبين في الواقع العملي.
مرة أخرى لا يقف الأمر عند حدود الاختلاف وتفاقمه، فبعد نحو عام من الخروج البريطاني من النادي الأوروبي، هناك رغبة حقيقية في تقييم جدول الأرباح والخسائر لهذا القرار، ليس لرغبة بريطانية في العودة للحصول على عضوية النادي مرة أخرى، فهذا الأمر يبدو بعيدا ومستبعدا الآن، إنما تبدو الرغبة في جردة حساب مدفوعة باستخدام النتائج لسد الثغرات، ومعرفة طبيعة الخطوات الواجب على كل طرف أن يتخذها، إذا ما رغب في الحصول على أكبر قدر من المكاسب، فضلا على الخروج منتصرا إذا ما تفاقم الصراع.
وترى الدكتورة جن براون أستاذة الاستراتيجية الدولية في جامعة رافينسبورن في لندن، أن شدة الصراع الاقتصادي بين الطرفين ستزداد في المرحلة المقبلة، ومرجع ذلك لا ينحصر في تغيرات تتعلق بالأوضاع الداخلية للجانبين، لكن لتغيرات في المشهد الدولي ذاته.
وتقول لـ"الاقتصادية"، إن "حدة الخلافات الاقتصادية ستتفاقم في الأعوام المقبلة، وهذا لا ينفي استمرار التعاون الاقتصادي بقدر الإمكان، نتيجة التداخل الاقتصادي في العلاقات الثنائية جراء أربعة عقود من عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، لكن الاتجاه العام سيقوم على تعزيز تلك العلاقات في حدها الأدنى مع السعي إلى استبدال الروابط الثنائية بعلاقات مع قوى اقتصادية أخرى كلما كان ذلك ممكنا".
وأضافت "في فترة تولي الرئيس ترمب للإدارة الأمريكية، كانت النظرة الأمريكية للاتحاد الأوروبي وإلى حد كبير لبريطانيا غير دافئة، وهذا أجل من تصاعد النزاعات بين النادي الأوروبي والمملكة المتحدة، الآن إدارة بايدن، رغم أنها عمليا لم تقدم لبريطانيا ما ترغب في الحصول عليه، وهو اتفاق تجارة حرة بين البلدين، مع استبعاد حدوث ذلك قريبا، فإن الاستراتيجية الأمريكية كشفت أنها تفضل إدماج بريطانيا في التحالف الذي تبنيه لمواجهة الصين، بينما لم يحظ الاتحاد الأوروبي بذات المكانة، وهذا يصب الزيت على نار الخلافات الأوروبية - البريطانية ويزيدها اشتعالا".
مع هذا يبقى السؤال قائما، كيف يمكن تقييم جردة الأرباح والخسائر التي تعرض لها البريطانيون وأعضاء الاتحاد الأوروبي بعد "بريكست"؟ وفقا لأرقام مكتب الإحصاء الوطني في المملكة المتحدة فإن تجارة بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي تراجعت بشكل حاد نتيجة الخروج من عضوية الاتحاد، وأيضا جراء تفشي وباء كورونا على جانبي القنال الإنجليزي، بل يحذر مكتب الإحصاء الوطني من أن المملكة المتحدة تفقد قدرتها التنافسية بشكل عام.
من جانبه، يقول لـ"الاقتصادية" روان جراي الباحث في مكتب الإحصاء الوطني "تراجعت تجارة بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي بشكل حاد في تموز (يوليو) الماضي، إذ انخفضت الصادرات بمقدار 1.7 مليار جنيه استرليني، عما كانت عليه في تموز (يوليو) 2018، وتراجعت الواردات بمقدار ثلاثة مليارات جنيه استرليني، وبصفة عامة يمكن القول إن المملكة المتحدة تقوم بتجارة أقل مع الاتحاد الأوروبي مقارنة بما كان عليه الوضع قبل ثلاثة أعوام، ويحتمل أن يكون هذا اتجاها دائما، خاصة أن مكتب الإحصاء الفيدرالي الألماني أشار إلى أن المملكة المتحدة في طريقها إلى الخروج من قائمة أكبر عشرة شركاء تجاريين لألمانيا وذلك لأول مرة منذ 70 عاما".
ويعود أحد الأسباب الكامنة وراء هذا الانخفاض إلى أن الخروج من عضوية النادي الأوروبي، تعني حاجة الطرفين إلى موافقات تنظيمية للصادرات والواردات بينهما، وهو شأن لم يكن هناك حاجة إليه من قبل، وتشير الأرقام الرسمية إلى رغبة بريطانية في البحث عن بدائل وشركاء تجاريين آخرين يغنون عن الاتحاد الأوروبي إن أمكن، فصادرات بريطانيا إلى الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي زادت بمقدار 700 مليون جنيه استرليني، لكنه رقم لا يكفي لتعويض انخفاض تجاراتها مع أعضاء الاتحاد.
ويزداد الوضع سوءا مع تراجع الخدمات المالية في المملكة المتحدة، التي لم يشملها اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إذ فقدت الخدمات المالية وهي أكبر قطاع تصدير في بريطانيا حصتها من السوق بشكل مطرد، مما قد يؤثر في المصدرين البريطانيين ويفقدهم ميزاتهم التنافسية في الأسواق الأوروبية.
تلك الخسارة لا تعد من وجهة أنظار المدافعين عن استقلالية المملكة المتحدة، بيت القصيد، ويستشهدون بتصريح شهير لمايكل جوف وزير الإسكان الحالي وأحد أقطاب التيار الداعي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يقول فيه "عندما تقلع الطائرة، فأنت تشعر بالاضطراب، لكن في نهاية المطاف وعندما تأخذ الطائرة مسارها فإنه يطلب منك نزع أحزمة المقاعد، لتبدأ في الاستمتاع بما يقدم لك من مشروبات وطعام، حتى الآن لم نصل إلى مرحلة تقديم المشروبات والطعام. باختصار لا ينظر أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي على أن مغادرة الاتحاد حدث يمكن تقييمه بالأرباح والخسائر، وإنما يعدونه عملية مستمرة ورحلة طويلة المدى، سيكون بها منحنيات وعراقيل، لكن في النهاية ستصل إلى نهاية مكللة بالنجاح.
لكن حتى الآن فإنه من غير الواضح الطريقة التي ستسير بها تلك الرحلة سواء للأوروبيين أو البريطانيين، وإن كانت في المعسكر البريطاني أكثر تعقيدا وارتباكا حتى الآن على الأقل، فالجانب الفرنسي يكثف من ضغوطه على المملكة المتحدة بشأن حقوق الصيد البحري، محذرا من أن التعاون الثنائي قد يكون في خطر.
من جانبه، يقول لـ"الاقتصادية" ماثيو دين الباحث في مجال الموارد البحرية، عن طبيعة الخلاف "باريس تشعر بالغضب لأن لندن منحت 12 ترخيصا من أصل 47 طلبا لسفن فرنسية صغيرة للصيد في المياه الإقليمية البريطانية، فبموجب اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي يجب على مشغلي القوارب الفرنسيين إظهار تاريخ الصيد في المنطقة للحصول على ترخيص، لكن بريطانيا طالبت بمتطلبات إضافية دون إشعار، استفز هذا الجانب الفرنسي، واتهم رئيس وزراء فرنسا، المملكة المتحدة بأنها لا تحترم توقيعها، وأنها شهرا بعد آخر تقدم شروطا جديدة وتتأخر في منح تراخيص نهائية، ووصل الأمر إلى حد التلويح بأن جميع الاتفاقيات الثنائية قد تكون في خطر، تلك الاتفاقيات تغطي الدفاع والأمن وضوابط الحدود والطاقة والتجارة".
ويواصل قائلا "الجانب البريطاني يرفض المزاعم الفرنسية بأن لندن انتهكت اتفاقية التجارة لـ"بريكست"، ويصر المسؤولون في المملكة المتحدة على أنهم قبلوا بـ 98 في المائة من طلبات الاتحاد الأوروبي للصيد في المياه البريطانية".
النزاع في عالم الصيد البحري أدى إلى تدحرج كرة الثلج بين الجانبين أكثر، خاصة في ظل الاحتقان الفرنسي من التعاون الأمريكي – البريطاني - الأسترالي وصفقة الغواصات التي خسرتها باريس مع أستراليا، وقد وصل الأمر إلى حد تهديد باريس بقطع إمدادات الطاقة عن المملكة المتحدة، آخذا في الحسبان أن 47 في المائة من واردات الكهرباء في بريطانيا من فرنسا، وفي جزيرة جيرسي الخاضعة للتاج البريطاني، فإن 97 في المائة من الكهرباء يأتي من فرنسا عبر كابلات تحت المياه.
ومع احتقان الوضع واتهام فرنسا رسميا لبريطانيا بأن الصيد الفرنسي بات رهينة لأغراض بريطانيا السياسية، ازدادت لغة الخطاب الرسمي للحكومة الفرنسية حدة، وابتعد الطرفان عن الأحاديث الدبلوماسية، ليتكشف التراجع السريع في العلاقات، خاصة بعد أن صرح كليمان بيون الوزير الفرنسي لشؤون أوروبا قائلا "تعتمد المملكة المتحدة على صادراتنا من الطاقة، ويعتقدون أنهم يستطيعون العيش بمفردهم، ويتغلبون على أوروبا أيضا، ونظرا لأن ذلك لا ينجح، فإنهم ينخرطون في سلوك عدواني".
لكن تراجع التبادل التجاري بين أعضاء الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، ومشكلات الصيد البحري، وتهديدات الكهرباء، تبدو من وجهة نظر الدكتور ويبر أولد مان أستاذ السياسة الدولية في جامعة بروملي، محدودة، ويمكن تداركها أو إبطاء تبعاتها، أما النزاع الرئيس الذي يمكن أن يحدث تطورا نوعيا شديد العدائية والسلبية بين الجانبين فيتعلق بوضع أيرلندا الشمالية في اتفاقية الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي.
الجانب البريطاني تزداد قناعته يوما بعد آخر بأن الاتفاق الموقع بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي والمعروف باسم "البروتوكول" ويمنح أيرلندا الشمالية وضعا خاصا ضمن صفقة "بريكست" لا يعمل بما يحقق المصالح البريطانية، في الوقت ذاته تبدو قناعة المسؤولين البريطانيين أن أي مقترحات سيقدمونها لنظرائهم الأوروبيين لن يوافقوا عليها.
من هنا يرى الدكتور ويبر أولد مان، أن هذا الوضع قد يدفع لندن لتفعيل المادة رقم 16 في اتفاقية الخروج التي تنص على أنه يمكن اتخاذ تدابير وقائية إذا كان "البروتكول" يؤدي إلى صعوبات اقتصادية أو اجتماعية أو بيئية "خطيرة" ويمكن أن تستمر، ويضيف الدكتور ويبر، أن مصطلح "خطيرة" لا يوجد بشأنه إرشادات محددة، لما يمكن اعتباره صعوبات خطيرة.
ويضيف لـ"الاقتصادية"، أن "البروتكول يمنح حكومة المملكة المتحدة سلطة تقديرية واسعة جدا بشأن الإجراء الذي يجب اتخاذه، فأحد أكبر التأثيرات العملية للبروتكول أنه أصبح من الصعب بكثير إرسال المنتجات الغذائية من بريطانيا العظمى إلى أيرلندا الشمالية، وهذا يضر بشدة في الشركات الصغيرة".
لكن إذا قررت الحكومة البريطانية تفعيل المادة 16، فهي تعلم تماما أن الأوروبيين لن يلتزموا الصمت، إذ سيوجد ذلك من وجهة نظرهم وضعا من عدم التوازن بين الحقوق الواجبة على بريطانيا والتزاماتها، وسيقوم الاتحاد باتخاذ إجراءات مناسبة -من وجهة نظره - لإعادة التوازن.
ولكن ما هي تلك الإجراءات المناسبة؟ الدكتورة جاسيكا ماسن أستاذة التجارة الدولية توضح لـ"الاقتصادية"، أن الأوروبيين يمكنهم فرض تعريفات جمركية على البضائع البريطانية، وسيكون على لندن اللجوء لمنظمة التجارة العالمية لمقاضاة الاتحاد الأوروبي، لكن حتى تقضي المنظمة الدولية بحكمها سيتلقى الاقتصاد البريطاني صفعة مؤلمة.
ما يمكن قوله إن تفعيل المادة 16 من قبل لندن، وفرض تعريفات جمركية على البضائع البريطانية من قبل بروكسل، يعني في التطبيق العملي، أن الطرفين ذهبا بعيدا في الخصومة، وأن عدم اليقين يأخذ الجانبين في اتجاه علاقة تنافسية ذات ملامح من التأهب الدائم للصدام، بما في ذلك من تكلفة مرتفعة على الجانبين.