الدبلوماسية الثقافية .. بريد الشعوب والأمم
سئل كارل أوجست ساندبيرج الشاعر الأمريكي ذات مرة، هل هوليود أهم من جامعة هارفارد، فكان جوابه "إن هوليوود ليست لها نظافة هارفارد، لكنها مع ذلك أقدر من "هارفارد" على الوصول إلى أمد بعيد". وكان كولن باول وزير الخارجية الأمريكي يردد "لا أستطيع أن أفكر في رصيد لدولتنا أثمن من صداقة قادة المستقبل، الذين تلقوا تعليمهم هنا".
تعد الفنون والأدب والدين والمعارض والبرامج التعليمية وتبادل البعثات أبرز أدوات عمل الدبلوماسية الثقافية التي تمثل ركيزة من ركائز الدبلوماسية العامة، بالنظر إلى جوهرها القائم على تبادل ومشاركة وتقاسم كل أشكال التعبير الثقافي بين الشعوب والأمم. تعرف هذه الدبلوماسية، بكونها "تبادلا للأفكار والمعلومات والفن وغيرها من جوانب الثقافة بين الأمم لتعزيز التفاهم المتبادل، وتحتوي ببساطة على كل ما تفعله الأمة لتعريف نفسها بالعالم". ما يجعلها واحدة من أكثر أساليب الدبلوماسية نجاعة، لاعتمادها الإقناع والتأثير عبر الثقافة والقيم والأفكار.
لا تميز الدبلوماسية الثقافية في أدوات عملها بين الثقافة العالية، بمشمولاتها من فكر وأدب ولغات وتعليم وما إلى ذلك، مما يروق النخبة، وبين الثقافة الشعبية، ممثلة في الأفلام والأغاني والرياضة التي تروق الجماهير. وكان هذا ما يعنيه الشاعر ساندبيرج عند الحديث عن تأثير هوليود، فالصور كثيرا ما تنقل القيم بصورة أقوى مما تفعل الكلمات. لكنها لا تكتسب تلك الصفة، في دولة معينة، حتى تندمج في برامج واستراتيجيات تخدم مصالح الدولة.
تركز هذه الدبلوماسية على المعطى الزمني بالدرجة الأولى، فتأثيرها يكون على المدى الطويل، وتتعمد الابتعاد قدر الإمكان عن المسائل السياسية. وتستهدف فئة الشباب وصناع الرأي والنخب المؤثرة والجمهور خارج الدوائر الدبلوماسية الرسمية، وتسعى إلى تحقيق ما تريد بالجذب بدلا من الإكراه أو الإجبار، ما يجعلها، في نظر كثيرين، أنجع السبل لتعزيز التفاهم بين الشعوب والأمم، خاصة أنها تتمرد على كل أدبيات الدبلوماسية التقليدية، فلا حاجة إلى بروتوكول ولا توقيع ولا أي شيء.
يصعب الحسم من الناحية التاريخية في بداية ظهور الدبلوماسية الثقافية، ففريق من الباحثين يعدها من ثمار تطور الدولة الوطنية في أوروبا، وينطلق هؤلاء من القرن الـ19 حين عملت معظم الدول بأساليب وطرق منظمة على انتهاج سياسة ثقافية خارجية واعية، تهدف إلى تنفيذ مهام سياساتها الخارجية، تمهيدا لمواجهة الاستعمار التي غطت نصف الكرة الأرضية. فيما يرى آخرون أن المسألة أقدم من فكرة الدولة الوطنية برمتها، فالرحالة والمستكشفون والتجار والمدرسون والفنانون أمثلة عريقة لأول بعثات الدبلوماسيين الثقافيين في العالم.
عن هذا الطرح يدافع وبشدة، الكاتب ريتشارد تي أرندت، الخبير في الدبلوماسية الثقافية، معتبرا "العلاقات الثقافية تنمو طبيعيا، دون تدخل الحكومة، معاملات التجارة والسياحة وتدفقات الطلاب والاتصالات وتداول الكتب والهجرة والوصول إلى وسائل الإعلام والزواج المشترك.. ملايين من اللقاءات بين الثقافات اليومية. وإذا كان هذا صحيحا، فلا يمكن القول إن الدبلوماسية الثقافية تحدث فقط عندما يحاول الدبلوماسيون الرسميون، الذين يخدمون الحكومات الوطنية، تشكيل هذا التدفق الطبيعي وتوجيهه إلى تعزيز المصالح الوطنية".
في الحقبة المعاصرة، برز المفهوم على الساحة الدولية، بداية العقد الثالث من القرن الماضي، مع إنشاء عصبة الأمم في العاصمة الفرنسية باريس مؤسسة باسم "مركز التعاون الفكري"، وتجددت العودة إليه، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتأسيس هيئة الأمم المتحدة التي أسست بدورها منظمة اليونيسكو التي تتولى رعاية النشاط الثقافي الدولي.
يتضح إذن أن الثقافة شكلت، على الدوام، عنصرا مهما من عناصر السياسة الخارجية للدول حديثا وحتى الإمبراطوريات قديما. فهي تعبر عن شخصية المجتمع، لذلك تحضر باستمرار في مراكز صناعة القرار في الدول المتقدمة، فهي الركن الأساسي، وأهم أدوات التواصل والتأثير الاستراتيجي في سياسة الدولة الخارجية. ويعتمد الأمريكي جوزيف ناي، رائد مفهوم القوة الناعمة، عليها لتفسير نجاح الحلم الأمريكي، فـ"جاذبية الثقافة الأمريكية أسهمت في تحقيق الأهداف الكبرى للسياسة الخارجية الأمريكية".
يرى باحثون وخبراء أن الثقافة ستصبح دبلوماسية القرن الـ21، لما تتسم به من مقومات تجعلها تتجاوز الدبلوماسية التقليدية، ما حدا بعدد من الدول إلى إيلائها مكانة خاصة في هيكلة وزارة الخارجية، فظهرت المعاهد والمراكز والمؤسسات الثقافية، المكلفة بإدارة وتدبير ورعاية الشؤون الثقافية على تراب دول أجنبية. ذلك بغية تجسير قنوات التواصل مع الثقافات الأخرى، وتعزيز مكانة وسمعة الدولة في وعي وذاكرة الشعوب.
تتبوأ فرنسا صدارة الدول الأكثر اهتماما بالدبلوماسية الثقافية، وذات الأسبقية من الناحية التاريخية، فأول تنظيم حكومي للشأن الثقافي الخارجي، يعود إلى أواسط القرن الـ19 في فرنسا، ولا تزال من أكثر الدول إنفاقا في مجال التعاون الثقافي الخارجي، برعايتها أكثر من مائة معهد فرنسي، ومئات من مدارس البعثات الفرنسية، تتولى مهمة نشر الثقافة والقيم الفرنكوفونية في العالم، التي تحظى بأهمية بالغة في فرنسا. فقد سبق لكرافيي داركوس مدير المعاهد الفرنسية أن تحدث 2011 عن رهان الدولة الفرنسية على المسألة الثقافة، قائلا "في سياق أزمة اقتصادية عالمية، فإن دولتنا ستعوض تراجعها النسبي في التنافس الصناعي عبر الحفاظ على نفوذها الثقافي. الدبلوماسية الثقافية ليست ترفا، بل رهان حيوي".
تأتي ألمانيا في المركز الثاني عالميا، وتعمل من خلال معهد جوته، الذي يعود تأسيس مقره الرئيس في مدينة ميونيخ إلى 1951، وينشط حاليا في أزيد من 80 دولة. وتحتل بريطانيا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، بإرثها الاستعماري الطويل، المركز الثالث من حيث الإنفاق، وإن كانت لها الأسبقية في تأسيس المجلس الثقافي البريطاني، الذي يعود إلى 1934، ويشتغل حاليا في أكثر من مائة دولة في العالم. وأطلقت الولايات المتحدة الأمريكية بدورها أول برنامج ثقافي رسمي 1938، تتولى تنفيذه حاليا مئات من المراكز الأمريكية المنتشرة في بقاع العالم. ووصل الاهتمام بهذه الدبلوماسية أن سويسرا، الدولة غير الاستعمارية، ترعى حاليا أزيد من عشرة مكاتب للمؤسسة الثقافية السويسرية "بروهلفتسيا"، قصد نشر ثقافة الدولة، وتعزيز التبادل الثقافي مع بقية دول العالم.
تفرض الثورة الرقمية التي تجتاح العالم، إيلاء أشد العناية بالدبلوماسية الثقافية، فهي السبيل المثلى لضمان تواصل حقيقي بين الشعوب والأمم، بعيدا عن منطق "الهيمنة الثقافية" أو "الاستعلاء الثقافي". وتضع حدا لزحف العولمة الهادر، فالدبلوماسية الثقافية إقرار بمفهوم النسبية الثقافية والخصوصية القومية.