رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


ولكن ما الاحتكار الذي تتكلم عنه؟

قد يسأل سائل عن حكم الاحتكار (والسائل يقصد المعنى الشائع الآن) ويقال له إنه تصرف غير طيب وقد يكون حراما (المفتي هنا يقصد الاحتكار بالمعنى الوارد في كتب اللغة والفقه). حسنا، بعض الخدمات محتكرة (بفتح الراء، وحسب المعنى الشائع لكلمة احتكار)، بتأييد من الاقتصاديين، ومستشاري السياسات العامة وبقرار من السلطة. فهل نسعى وهل تسعى السلطة إلى تحليل الحرام؟ لا، ولكنها مشكلة لغة وترجمة.
ترد أحكام شرعية على بعض التصرفات التي يعرف المقصود منها وفقا لدلالتها اللغوية وفهم العرب لها وقت نزول الوحي طبعا. ولكن من المعروف أن دلالة كثير من الكلمات عند الناس تتعرض للتغير الكلي أو الجزئي مع مرور السنين. والمعاني التي نقرأها في معاجم اللغة المشهورة القديمة كلسان العرب، تعني المعاني والدلالات اللغوية لدى العرب قبيل وعند ظهور الإسلام، ولا أعرف معجما يشرح تطور المعنى تاريخيا.
مقابل الصورة السابقة، شاعت ترجمات لمصطلحات وتعبيرات ذات معان محددة في عالم الاقتصاد والمال المعاصرين، وهي معان تكونت في الغرب. وليس من الضروري أن تتفق مع المعاني اللغوية والفقهية، ومن أوضح الأمثلة كلمة احتكار.
كلمة احتكار في اللغة العربية مأخوذة من الحكر، الذي يفيد معنى الحبس انتظارا للغلاء. جاء في لسان العرب: "الحَكْرُ ادِّخارُ الطعام للتربص وصاحبُه مُحْتَكِرٌ... الاحْتِكارُ جمع الطعام ونحوه مما يؤكل واحتباسُه انْتِظارِ وقت الغَلاء بِه...". وقد دارت التعريفات الفقهية حول المعنى اللغوي، مع خلافات في تفاصيل.
يفهم من المعنى اللغوي والفقهي أن السلعة موجودة، ومن ثم لا يدخل في مسمى الاحتكار ما كان بالإمكان إنتاجه، ولم ينتج، كمزارع ينتج أقل من طاقة مزرعته، وكان بإمكانه إنتاج المزيد، ولكنه لا يفعل. كما لا يدخل حالة كون السلعة تنتج من منتج واحد، سواء بأمر السلطة أو دون تدخل منها، طالما لم يحبسها، ولكنه قد يوفرها بسعر المثل، حسب تعبير الفقهاء، أي سعر لا يحقق له ربحا فاحشا، وقد لا يفعل، وكونها لا تحمل مسمى احتكار لا يستلزم أنها ممارسة تجارية مشروعة.
أما في العصر الحاضر، فقد شاع استخدام هذه الكلمة "احتكار" ترجمة للكلمة الأعجمية "مونوبولي" monopoly. ومونوبولي مشتقة جزئيا من mono، والتي تعني مفردا وأحاديا. ويفهم من ذلك أن كلمة مونوبولي تعني الانفراد "ويلحق بذلك تكتل قلة" في توفير سلعة ما. وهذا الانفراد بطبيعته يعطي المنتج أو البائع قدرة على التحكم في الكميات المنتجة "العرض" أو الأسعار، ولكن ليس الاثنين معا.
ولذا نفهم أن كلمة مونوبولي لا تطلق على قيام أحدهم بحبس ما في حوزته من سلعة يبيعها كثيرون، انتظارا إلى وقت يقل عرضها، ومن ثم يرتفع سعرها، وهذا متصور حدوثه كثيرا في السلع الوقتية. ولكن إذا كان الحابس منتجا لكل أو معظم السلعة، فإنه يجمع بين الاحتكار بالمعنى اللغوي، والاحتكار بالمعنى الشائع الآن. ولكن المعنى اللغوي لا يتوقف على كون الحابس مهيمنا على القدر المنتج من السلعة.
جدت أمثلة مختلفة في عصرنا الحاضر، فمثلا، يمتنع أكثر الناس عن بيع ما بحوزتهم من أراض أو أسهم إذا توقعوا ارتفاعا قريبا في أسعارها. هل يعد هؤلاء محتكرون بالمعنى الفقهي؟ وهل هو عمل محرم؟ أسئلة للنقاش.

كيف نشأ الاحتكار بالمعنى الحديث الشائع؟

طبيعة التوسع والتطور الصناعي والتقني في الغرب منذ منتصف القرن الـ 19 الميلادي حفزت منشآت (وخاصة في أمريكا) إلى تكوين تكتل trust لتسهيل أعمالها وزيادة أرباحها تحت سلطة رقابية على الأصول assets تسمى مجالس الأمناء. وقد جنحت هذه التكتلات إلى التضييق على دخول المنافسين بهدف إبقاء الأسعار أعلى من الأسعار التنافسية، وهي عملية تسمى تقنيا "الممارسات السعرية غير العادلة". وقد تلجأ هذه التكتلات إلى خفض الأسعار دون التكلفة لفترة مؤقتة بغرض الإضرار بالمنافسين الصغار ومحاولة إجبارهم على الخروج من السوق.
الأحداث السابقة دفعت المشرعين في أمريكا أواخر القرن الـ 19 إلى إصدار قوانين تحمي المنافسة، أو ما يسمى أحيانا antitrust والتي تعني مكافحة التكتل والاحتكار. وقد تبعت ما فعلته أمريكا لاحقا أكثرية دول العالم، ولكن القوانين الأمريكية، في الغالب، هي الأقوى والأشمل، وأحد الأسباب ضخامة السوق الأمريكية، مقرونة بتدخل أقل من الحكومة الأمريكية في امتلاك شركات وتشغيل أنشطة ذات طبيعة تجارية، مقارنة بالحكومات الأوروبية الغربية. ويعمل تطبيق هذه القوانين على مكافحة الممارسات المعطلة للمنافسة، وتناولت حتى حالات خفض السعر دون التكلفة، ويحدث هذا غالبا من الشركات الكبرى بهدف الإضرار بالمنشآت الصغيرة المنافسة للخروج من السوق. تسمى هذه القوانين أحيانا بقوانين مكافحة الاحتكار، من باب الخاص الذي يراد به العام، وقد توسعت مع الوقت، وأصبحت، من كثرتها وتشعبها وتعقيدها، مثل البستان الضخم الذي نما من بذور بحجم قبضة اليد.
ومع ذلك فإن مكافحة الاحتكار ليست خالية من العيوب، فقد يرى أن الاحتكار أو التكتل يجلب، في حالات، تحسينا في الكفاءة الاقتصادية. وهناك أنشطة يرغب في كونها احتكارية لسبب اقتصادي، والتعرض لذلك يطول المقال. هذا وبالله التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي