جلال برجس يفتح «دفاتر الوراق» ويحصد «البوكر»

جلال برجس يفتح «دفاتر الوراق» ويحصد «البوكر»
جلال برجس.
جلال برجس يفتح «دفاتر الوراق» ويحصد «البوكر»
يتطرق الكاتب إلى معضلة الكتب والروايات التي خف الإقبال عليها.

ما إن مر أمامي خبر فوز الكاتب الأردني جلال برجس بالجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" في طبعتها 2021 عن روايته "دفاتر الوراق"، بدأت الحشرية تنخر عقلي، والنهم الأدبي يتسلل ويجري في شراييني، يدفعني نحو تناول جرعات أدمنت عليها منذ أن اتخذت من القراءة ترياقا، يساعدني على مواجهة فيروسات مصاعب الحياة، اقتنيت نسخة إلكترونية، مع أنني أشتاق إلى رائحة الورق وأستمتع بملمسه الناعم، ولطالما اعتبرت أن للقراءة طقوسا تفرح القارئ، أكثر من الرواية نفسها.

اقتباسات استهلالية

ما هي إلا لحظات حتى أصبحت "دفاتر الوراق" أمامي بأوراقها الـ366، من البداية اكتشفت أنها تدخل القارئ في عناصر تشويقية، استعملها الكاتب ضمن سياق انسيابي بسيط بمفرداته، ثقيل بمعانيه وثقافته وسلس بأسلوبه، استهلها بعبارات لا تقل جمالا عن دفاتره، استشهد بقول للكاتب كارل جوستاف يونج "حتى الحياة السعيدة لا يمكن أن تخلو من قدر من الظلام، وكلمة سعيد ستفقد معناها إذا لم تتوازن بالحزن"، فكأنه يلمح إلى نفحات حزن ستغزو قلب القارئ في الصفحات التالية، ومن ثم اقتبس عن فيكتور هوجو قوله "ضميري يطاردني، فهو الذي يتعقبني، ويقبض علي، ويحاكمني، ومتى سقط الإنسان في قبضة ضميره فلا مفر له".

إبراهيم .. المحور

وها قد وصلت إلى الفصل الأول، لأتعرف على إبراهيم، الذي يمتلك كشكا صغيرا لبيع الكتب، فهو قارئ لديه مخزون عال من الثقافة، يقص لنا منذ البداية كيف أن والدته توفيت بمرض السرطان، وكيف هاجر أخوه إلى تركيا ووالده شنق نفسه في المطبخ. روى إبراهيم التفاصيل بدقة متناهية، كأنك أمام مشهد تلفزيوني يظهر لك حتى تفاصيل الوجوه، يستعرض من البداية ثقافته المتنوعة "شربت كأس ماء وعدت إلى سريري بخطى متثاقلة، واستلقيت فيه، على طاولة صغيرة بقربي رواية "الأبله" لديستويفسكي، قرأت هذه الرواية لأكثر من مرة، لكنني أعود إليها مثلها مثل عدد من الروايات التي استوطنت شخصياتها ذاكرتي".

قضايا مجتمعية

يتطرق الكاتب إلى معضلة الكتب والروايات التي خف الإقبال عليها، فبعد إصدار أمر حكومي بإزالة الكشك تدهورت حالته "ما عاد يأتي إلى الكشك إلا عدد من الكتاب، والباحثين، وقراء لا يزالون يرون في الكتاب بابا يطل على الحقيقة، عندما أزالوه قرأت أن بعض رواد وسائل التواصل الاجتماعي قد احتجوا على إزالته، لكن بعد مضي أسبوع ما عاد يتحدث بما جرى، إنها ذاكرة سمكة"!

انفصام بطل الرواية

يعاني إبراهيم مرض الفصام، بسبب تراكمات داخلية، أوجدها والده الذي أورثه أفكاره التي أثرت فيه، وزادتها تلك الوحدة والعزلة القاتلة، كتب له أن يعيش الصراع الإنساني، الماضي والحاضر، الحقيقة والوهم، الخير والشر، الضياع والفقد، يعيش معاناته مع المرض ورغبته في الانتحار، مع ذلك الصوت المسيطر الصادر من بطنه المنتفخ، الذي يعكس له الخير، ليحوله إلى أفكار هدامة ومصيرية.
ويقع له أول لقاء بهذا الصوت المسلط، بعد أن أحس يوما أن بطنه ينتفخ فجأة، معلنا عما وصفه بالحمل الشرير، ما يستدعي زيارة إبراهيم لطبيب نفسي، ثم اللجوء إلى الشرطة قصد التبليغ ضد هذا المجرم الذي يسكنه، الذي يحرضه على العنف ضد الجميع ودون مبرر مقنع، ويسافر مرة ثالثة إلى مدينة العقبة قصد الانتحار غرقا، والتخلص نهائيا من هذا الصوت البشع الذي أصبح ملاصقا له.

دفتر ليلى

تتداخل قصة بطنه المنتفخ مع دفتر "ليلى" وهي شخصية تجسد ليلى الشابة التي تقضي 18 عاما في الملجأ، التي غادرته لتجد نفسها بعد ذلك في مواجهة المجهول، وهو الواقع في صورته المخيفة، واقع غريب عليها. فبعد تجربة السكن مع صديقات لها، وهربها من محاولة اغتصاب، تلتقي إبراهيم، الذي أصبح مشردا بعد أن طرده مالك المنزل، ممارسا عليه تهديدا ناعما. ويكون أحد الجسور هو المكان الذي يجمع بينهما.

ودفتر نون

كان متوجها نحو الانتحار إلا أن السيدة نون أرشدته نحو الحياة "مشيت نحو الجسر بخطوات ثقيلة، ومن داخلي يأتي صوت عال لنقرات ساعة تشير إلى لحظة نهاية مقبلة، وفي كل خطوة منها تطل ذاكرتي على جانب من عمري، ومع كل تكة لتكات الساعة يجفل قلبي حزنا على كل ما لم أفعله، إلى أن وصلت إلى حافة الجسر، حيث كانت تقف تلك السيدة".
وبعد عودته يفتش عنها لكن عبثا، "إن اللحظة التي تقع بين الموت والحياة مثل شعرة تلتصق بسطح العين، ما إن تزول حتى تتضح الرؤية، وإن ثمة أحداثا مباغتة تبدل وجهات، اعتقدنا أنها نهائية لا عودة عنها".

عودة جيلين إلى الوراء

من السيدة نون إلى الصحافية التي فتح الكاتب دفترها، التي في النهاية نكتشف أنها التي أنقذت حياته، وخصص الكاتب صفحات كثيرة للحديث عن جده محمود الشموسي، الذي تم ترويضه من قبل الإقطاع والفقر والمرض والدين حتى أصبح خانعا، لكن رغم ذلك، فالرغبات والأمنيات الدفينة في نفسه ظلت تتقد، لذلك لن نستعجب عندما أطلق النار على ابنه جاد الله، العائد من الاتحاد السوفياتي، بعد أن خيب حلمه بدراسة الطب ودرس الفلسفة، وقبل ذلك انتسب إلى الحزب الشيوعي، وأحب امرأة روسية، لكنها ماتت.
وفي هزيمة 1967 صرخ بأن الروس تخلوا عن العرب، فسجنته المخابرات الروسية. وعندما عاد إلى الأردن، زوجه أبوه، لكن لم يطل به الوقت حتى تم سجنه من جديد بحجة انتمائه إلى الحزب الشيوعي. ترك مادبا بعد خروجه من السجن، ومن ثم هاجر وعائلته إلى العاصمة عمان، وهناك افتتح كشكا لبيع الكتب، وجاء إبراهيم إلى تلك الحياة.

ثقافة واضحة للكاتب

لا شك أن الرواية فيها كم كبير من الثقافة، ظهرت من خلال الشخوص التي تقمصها الكاتب، لذلك كان من السهل عليه أن يصبح مصطفى سعيد في "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، وسعيد مهران في "اللص والكلاب"، و"أحدب نوتردام" لهوجو، و"الدكتور زيفاكو" لبسترناك، جميعها شخصيات تم الربط بينها في الرواية بأسلوب بوليسي تكتيكي درامي مشوق، استحقت نتيجة ذلك جائزة "البوكر" 2021.

من جلال برجس؟

جلال برجس شاعر وروائى أردنى من مواليد 1970، يعمل فى قطاع هندسة الطيران، عمل في الصحافة الأردنية لعدة أعوام، وترأس عددا من الهيئات الثقافية، وهو الآن رئيس مختبر السرديات الأردني، ومعد ومقدم برنامج إذاعي بعنوان "بيت الرواية".
صدرت له مجموعات شعرية وقصصية، وكتب في أدب المكان، وروايات مختلفة، حازت مجموعته القصصية "الزلازل" (2012) جائزة روكس بن زائد العزيزي للإبداع، ونالت روايته "مقصلة الحالم" (2013) جائزة رفقة دودين للإبداع السردي 2014، كما فازت روايته "أفاعي النار" فى فئة الرواية غير المنشورة بجائزة كتارا للرواية العربية 2015، وأصدرتها هيئة الجائزة في 2016، ووصلت روايته الثالثة "سيدات الحواس الخمس" (2017)، إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية 2019.

الأكثر قراءة