السياسات النقدية وحدها لن تجدي نفعا لنمو الاقتصادات.. لا توضع العربة أمام الحصان
على مدار الـ30 عاما الماضية باتت استقلالية البنوك المركزية، خاصة في الاقتصادات المتقدمة جزءا أصيلا من المفاهيم الاقتصادية السائدة في تلك الدول.
منحت معظم البنوك المركزية في تلك البلدان القدرة على إدارة السياسة النقدية بشكل مستقل عن تدخل السلطات المالية والسياسية. واليوم جميع البنوك المركزية تقريبا في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مستقلة من الناحية التشغيلية، وتعتمد على أدواتها الخاصة لتحديد أو استهداف المستويات المختلفة لأسعار الفائدة والتضخم.
وترتبط أيضا استقلالية البنوك المركزية بشكل وثيق بتعاملها مع معدلات التضخم، حيث تعلن هدفها للتضخم على المدى القريب أو المتوسط، وبالطبع تحدد بشفافية خياراتها المستقبلية، فيما يتعلق بمعدل التضخم المستهدف.
وترتبط الاستقلالية أيضا بقواعد تعيين وعزل محافظي البنوك المركزية، ومدى ضرورة استشارة الحكومة أو السلطات المالية قبل اتخاذ قرارات السياسة النقدية.
مقابل تلك الاستقلالية تبنت البنوك المركزية دورا أوسع من دورها التقليدي بهدف تحقيق الاستقرار المالي، وتتطلب تلك الأدوار الجديدة مزيدا من التعاون مع السلطات العامة، لكن هذا التعاون في حد ذاته حد بدرجة أو بأخرى من الاستقلالية التي يتمتع بها محافظو البنوك المركزية، التي يعدها بعضهم مفرطة.
حتى الآن يوجد إجماع بين الأكاديميين والخبراء على أهمية الحفاظ على استقلالية البنك المركزي، بل إن الاتجاه العام في العقود الثلاثة الماضية كان يسير في اتجاه مزيد من الاستقلالية، لكن الأعوام الأخيرة شهدت تنامي أصوات لها ثقل اقتصادي تتساءل عن الفائدة الحقيقية من تلك الاستقلالية، خاصة أن الأزمة المالية 2008 إضافة إلى التبعات الاقتصادية لجائحة كورونا، جعلت البنوك المركزية تتولى مسؤوليات أوسع نطاقا لتحقيق الاستقرار المالي، واستخدمت لذلك أدوات غير تقليدية أبرزها أسعار الفائدة السلبية وإلى حد ما التيسير الكمي، وقد تعرضت تلك الوسائل إلى انتقادات جادة، وعد بعض الخبراء أن الإفراط في استخدامها عمق الأزمة المالية في كثير من الأحيان.
من هنا طرحت كثير من التساؤلات حول حقيقية الاستقلالية، التي تتمتع بها البنوك المركزية، وهل عمليات الإنقاذ المالي التي تقوم بها تعكس استقلاليتها أم أنها شكل من أشكال التداخل بين السياسي والمالي، وربما كانت مشاركة محافظ بنك إنجلترا السابق في المناقشات، التي جرت بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، واحدة من الأسباب التي دفعت بعديد من المعلقين للحديث عن مدى المصداقية في استقلالية البنوك المركزية، كما أنه خلال فترة تولي الرئيس دونالد ترمب سدة السلطة في الولايات المتحدة، انتقد بشكل متكرر مجلس الاحتياطي الفيدرالي، بل أن أعضاء من الكونجرس الأمريكي طالبوا بأن يكون هناك مزيد من الإشراف على أنشطة البنك المركزي.
"الاقتصادية" توجهت بالسؤال لعدد من الخبراء لاستطلاع الآراء حول هل يمكن أن نتوقع انتهاء عصر استقلالية البنوك المركزية؟ أو على الأقل تعديلها بشكل جوهري؟ وهل الانتقادات التي يوجهها بعضهم لتلك الاستقلالية والثغرات الراهنة في أداء البنوك المركزية، سيتم التغلب عليها عبر تعزيز استقلاليتها ومنحها مزيدا من الصلاحيات المالية؟
يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور إل. دي واتس الاستشاري السابق للجنة المالية لبنك إنجلترا، "كان هدف البنوك المركزية واضحا في الماضي، وهو الحفاظ على استقرار الأسعار من أجل الوصول إلى هدف تضخم غالبا في حدود 2 في المائة، هذا التفويض تغير وتطور نحو تفويضات مزدوجة مثل رفع معدلات النمو الاقتصادي وإيجاد فرص عمل، وكثير من الأهداف الأخرى غير المحددة، وهنا برزت تساؤلات بشأن التفويض الممنوح للبنوك المركزية، وهل هي للاستقرار أم تعزيز الديناميكية الاقتصادية"؟
ولكن ألا يمكن التوفيق بين الاستقرار والديناميكية الاقتصادية؟
يجيب الدكتور إل دي واتس، "في أوقات الأزمات المالية يصبح ذلك صعبا، خاصة في ظل الاتهامات الموجهة للبنوك المركزية في البلدان المتقدمة بأنها تتصرف لمصلحة النخب مثل المصرفيين والمساهمين، ما أدى إلى زيادة عدم المساواة، فقرارات البنوك المركزية توجد رابحين وخاسرين في المجال الاجتماعي والاقتصادي، ولتفادي تداعيات ذلك لا بد أن تكون التفويضات الممنوحة للبنك المركزي ومحافظ البنك المركزي أبعد ما تكون عن العمومية والتعقيد والغموض".
من جهتها، تؤكد لـ"الاقتصادية" الباحثة كارين سميث والمتخصصة في مجال السياسات المالية، أنه لا يزال استقلال البنوك المركزية أمرا مقدسا حتى الآن على الأقل، ولكن صعود السلطوية، كما هو الحال في تركيا مثلا، والتشكيك في الديمقراطيات الليبرالية، كما هو الحال في المجر، أدى إلى ممارسة ضغوط هائلة على محافظي البنوك المركزية، مع احتمال تسيس التعيينات في بعض البلدان، بل وعزل محافظي البنوك المركزية من مناصبهم، بعض هذا التسيس له ما يبرره بسبب عدم الوضوح في تفويضات البنك المركزي، كما أن بعض محافظي البنوك المركزية يتطلعون أيضا إلى لعب دور سياسي، نظرا للأهمية، التي تأتي منه.
وتضيف "لقد أعطى الحفاظ على أسعار الفائدة منخفضة لفترة طويلة بعض الراحة للبنوك المركزية، لكنه في الوقت ذاته يمكن لاستدامتها أن يفقدها نفوذها الاقتصادي، وكثير من البنوك المركزية متهمة بعدم استخدام الميزانيات العمومية الضخمة بشكل استراتيجي، وهذا تحديدا يدفع عديدا من الخبراء الآن إلى التساؤل حول جدوى الاستقلالية، ويكمن الخلاف حاليا فيما إذا كان الضغط سيزداد قوة في المستقبل لإعادة تعريف مفهوم استقلالية البنوك المركزية أم لا".
لكن الدكتور إدوارد فيليب بروفسير المالية العامة في جامعة بروملي يجادل بأن بعض ما يبدو وكأنه انتقادات موجه لأداء البنوك المركزية لا تمثل تهديدا كبيرا لاستقلاليتها، وإنما يجب اعتبارها تشكيكا في الأهداف المحددة لها، كما أن الجوانب المؤسسية تجعل من غير المرجح أن تتأثر استقلالية كبرى البنوك المركزية في العالم مثل بنك إنجلترا والمصرف الأوروبي المركزي والاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في المستقبل القريب، مع هذا فإنه يرجح أن الاستقلالية ستظل قائمة بحكم القانون لكن على أرض الواقع سيبدو الأمر مختلفا.
وقال لـ"الاقتصادية" إن "الاتجاه المستقبلي سيقوم على التنسيق بشكل أكبر مع الجهات الحكومية الأخرى، لأن التجربة الراهنة للبنوك المركزية بأنها قادرة على ضمان نمو اقتصادي قوي والحفاظ على استقرار الأسعار والحفاظ على الاستقرار المالي يوجد أوهاما حول قدرات البنوك المركزية، وحاليا نشاهد أعدادا متزايدة من البنوك المركزية حول العالم تفشل في تلبية تلك التوقعات، ويدفع ذلك إلى زيادة التشكيك في استقلاليتها".
التباين في الآراء حول استقلالية البنوك المركزية وجدواها وإمكانية المحافظة عليها في المستقبل أو تقلصها، ترتبط في الواقع بالمعطيات الاقتصادية على الأرض، فالبنوك المركزية حول العالم تتعرض لضغوط من حكوماتها لغض الطرف نسبيا عن التضخم، والتركيز على النمو وإيجاد الوظائف، فلا تزال الحكومات في أغلب البلدان المتقدمة، ونتيجة الانكماش الاقتصادي الناجم عن سياسات الإغلاق، التي تم تبنيها للتصدي لوباء كورونا، تركز حاليا على النمو وخفض معدلات البطالة بدلا من التضخم، الذي يرجعه كثير من الحكومات إلى الارتباك الدولي في سلاسل التوريد، وليس نتيجة زيادة السيولة المالية، جراء سياسيات التيسير الكمي وانخفاض أسعار الفائدة.
لكن المشكلة الحقيقية، التي تسهم في تآكل استقلالية البنوك المركزية، أنها حاولت في كثير من الأحيان تعزيز النمو وتوليد فرص العمل من خلال السياسات النقدية، لكن النتيجة لم تكن ناجحة دائما، فالمراهنة على أن السياسات النقدية يمكن أن تكون بديلا عن سياسات تنموية حقيقية لن يجدي نفعا على الأمد الطويل، فالعلاقة بين السياسة النقدية والنمو الاقتصادي وإيجاد فرص العمل ليست علاقة تسير دائما إلى الأمام.
بدوره، يقول لـ"الاقتصادية"، البروفيسور داتا داس الأستاذ السابق للتنمية الاقتصادية، "المعضلة الكبرى للبنوك المركزية لا تكمن في استقلاليتها، وإنما بتحميلها عديدا من المسؤوليات، عبر المراهنة على أن السياسات النقدية بمفردها قادرة على معالجة الخلل الاقتصادي، البنوك المركزية وسيلة أو أداة للتنمية وليست هي المسؤولة عن التنمية، فاستقلالية البنوك المركزية مهمة ويجب الحفاظ عليها، ولكن مع مرونة تصب في مصلحة الرؤية العامة للدولة للنهوض الاقتصادي".
ويؤكد أن البنوك المركزية لا شك رأس حربة في جهود التنمية الاقتصادية، لكن لا يجب وضع العربة أمام الحصان، فهي القادرة على تحقيق التنمية الاقتصادية وستظل رؤية الدولة للتطوير والإصلاح الاقتصادي، والبنوك المركزية عليها أن تعمل في هذا الإطار.