سيحارب العالم قيام الاقتصاد الإسلامي إذا ظل يُعرض بالطرق العدوانية
ناقشت في مقال سابق الأضرار التي لحقت بعض الدول جراء تبنّيها الرأسمالية المطلقة، التي عانت شعوبها وأفرادها ويلات الفقر والجوع والمرض نتيجة قلة ما في اليد، وقد قدمت الولايات المتحدة الأمريكية مثالا على ذلك. ولم يكن السبب فقط ظلم النظام الرأسمالي، بل أيضا طريقتنا نحن في تسويق الاقتصاد الإسلامي وإظهاره كقوة ماردة ستسيطر على العالم في يوم ما، وكان من المفترض أن نقدمه كمشعل هداية للبشرية وكمنقذ للإنسانية. لذا أرى أن العالم بكل دياناته وقومياته وأعراقه سيحارب قيام الاقتصاد الإسلامي، لأننا نتعمد عرضه بطريقة تحمل في طياتها النعرة الاستعمارية، وما طريقتنا في التشفي بانهيار الاشتراكية وقرب سقوط الرأسمالية إلا دليل على ذلك، وأرى أنه سيظل حبيس النظرية طالما ظللنا نفكر بهذه الطريقة العدائية. وحتى أثبت مصداقية ما أقول سوف أعرض بعض التناقضات في أحد مجالات المعرفة، وكيف أن بعض نظريات العلم تم الاحتفاء بها وبعضها الآخر هُمشت وحُوربت لا لشيء إلا لطريقة عرضها ورفعها لواء العقائدية والقومية.
قام البروفسور الياباني أوتشي Ouchi بتقديم نظرية أسماها "Z" على أنها نموذج مستمد من التزاوج بين الثقافتين الأمريكية واليابانية، وقد أضاف مساهمة رائدة إلى الفكر الإداري أفادت منها كثير من الحكومات والشركات، ولكن عند التدقيق في خصائص وملامح هذا النموذج نجده تجسيداً للقيم والأعراف اليابانية، إلا أنه تحاشى إظهار الثقافة اليابانية، فكان له من النجاح ما أراد. ولو طرح أوتشي Ouchi نموذجه هذا بلغة دينية أو ثقافية صرفة وبدأ يلغي الآخرين كما يفعل المسلمون، لما قُدِّر لرائعته هذه أن تؤصَّل في الفكر الإداري الحديث، وما قدر له أن ينعم بتتويج اسمه مع أبرز علماء الإدارة.
وعلى النقيض تماما قام البروفسور العربي المسلم عبد العزيز أبو نبعة، بتقديم نظريته التي أسماها "نظرية عربية في الإدارة"، حيث استعان بالنماذج والنظريات السابقة في الفكر الإداري بدءا بنظرية الإدارة البيروقراطية، مرورا بتحليل النظم ونظرية المواقف، انتهاء بنظرية "Z". ورغم أن بعض هذه النظريات تحمل أسماء بلدانها، إلا أن أصحابها يتحاشون صبغ نظرياتهم بثقافتهم الأصلية ولم تحمل أي منها أي انتماء واضح عقدي أو قومي أو ثقافي.
قام عبد العزيز أبو نبعة ببناء نظريته على إعتاق النظريات السابقة من أجل توثيقها وتأصيلها، ثم استعان بالمبادئ الإسلامية كالشورى والعدالة والإنصاف كي يضيف مساهمته عن طريق أبراز القومية العربية والمبادئ الإسلامية.. فماذا كانت النتيجة؟ أصبح أنموذجه هذا رهين إصداره ولم تأخذ نظريته حقها في الفكر الإداري حتى حينه، ولا أظنها ستأخذ موقعها بين نماذج الإدارة رغم تحكيمها من قبل كبريات المجلات البريطانية. والعجيب في الأمر أن أعدادا كبيرة من أساتذة الإدارة في الوطن العربي لم يسمعوا عنها، ولو لم تتاح لي فرصة مقابلة صاحب النظرية في جامعة الفيصل مصادفة لما قدر لي أن أكتب هذه المقارنة، بل إن صاحبها نفسه أدرك بعد أمة أن لديه أنموذجا رائعا يطلق عليه "النظرية العربية في الإدارة". وبالفعل إنه أنموذج رائع يمثل أحد جانبيه خلاصة تجارب العلماء والجانب الآخر مبادئ الدين الإسلامي الحنيف.
والسؤال الآن: لماذا نجحت نظرية "Z" للبروفسور الياباني أوتشي ولم تأخذ "النظرية العربية في الإدارة" للبروفسيور العربي المسلم عبد العزيز أبو نبعة حقها، رغم اتباع كليهما الطرق العلمية للبناء النماذج؟ يرجع هذا في رأيي إلى أن أوتشي لم يتطرق أبدا إلى ما يشعل فتيل الصراعات، فلم يتعرض البتة إلى النواحي العقدية والقومية بشكل مباشر رغم أن من يغوص في أعماق النظرية يرى تمجيدا واضحا للثقافة والعادات والسلوكيات اليابانية. وعلى العكس تماما قام "عبد العزيز" بإظهار النعرة القومية والحس الديني وأبرزه ناصعا براقا، حيث تصدرت كلمة "العربية" عنوان النظرية، وشملت المصطلحات الإسلامية الفريدة أجزاء النموذج الأساسية، وهذا غير مقبول لان الأمم عادة ما تغار من أن ينتمي الفكر إلى أمة بعينها. بطبيعة الحال قد تكون هناك أسباب أخرى ساعدت على بروز الأولى واضمحلال الثانية، فقد عُرف عن اليابانيين تقديس العمل ودقة الأداء واحترام أخلاقيات المهنة، ونحن العرب على النقيض تماما إلا أنني أرى أن هذه أسباب ثانوية.
ما أود الوصول إليه من هذا العرض هو إثبات ما سبق، وذكرته في المقال السابق بخصوص هذا الموضوع، وهو أننا إذا أردنا للاقتصاد الإسلامي أن يستفيد منه العالم فعلينا أن نبتعد عن تقديمه كأيديولوجية أو كجزء من ديانة، ولا أظننا نعجز عن اقتراح اسم آخر مرادف لكلمة "إسلامي"، فأعتقد أن هذه الصفة أخرت ظهوره. عند تسويق الخدمات وخصوصا الأفكار، يجب الابتعاد عن إثارة الحس الديني أو الثقافي، فتطرح الأفكار كنماذج تخدم المجتمع والعنصر البشري أياً كان انتماؤه كي تُقبل وتتحاشى صراع الديانات وانتقام الثقافات. فهلا تعلمنا تسويق أفكارنا وتركنا الصراع جانبا لندعو إلى الله على بصيرة ونقدم مبادئ ديننا بطرق جذابة؟ فإن فعلنا ذلك واقتنعوا بما لدينا فلعلهم أقدر منا على استثمارها والإفادة منها.