الاستثمار في بريطانيا .. ارتفاع التدفقات على الصناديق في بورصة لندن 126 %

الاستثمار في بريطانيا .. ارتفاع التدفقات على الصناديق في بورصة لندن 126 %
حسم الشعب البريطاني أمره وصوت بالأغلبية لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي منذ خمسة أعوام.

خمسة أعوام مرت منذ أن حسم الشعب البريطاني أمره، وصوت بالأغلبية لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي. خمسة أعوام مرت ولا تزال أصداء تلك الخطوة التاريخية محل جدل يمتد من المراكز البحثية ووسائل الإعلام إلى الخبراء والأكاديميين، ومن السياسيين وأعضاء البرلمان إلى الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني على مختلف توجهاتها، هل كان في القرار خير وبركة لمستقبل بريطانيا الاقتصادي، أم أنه نذير شؤم وخراب على هذا المستقبل؟
لا تعود أهمية السؤال المتعلق بتقييم أداء بريطانيا الاقتصادي منذ اتخذت قرارها بالرحيل عن النادي الأوروبي، إلى محورية الاقتصاد كسبب وداع من الدواعي الرئيسة في طلب الأغلبية الخروج من الاتحاد الأوروبي، على أمل أن يكون في الطلاق بداية لنهضة اقتصادية جديدة، ترفع مستوى المعيشة، وتعزز موقع بريطانيا على الساحة الدولية، وتأثيرها في القرار الدولي.
وعد أنصار الخروج بأن تكون تلك الخطوة بداية استعادة بريطانيا "استقلاليتها" في اتخاذ قرارها، التي فقدتها - على حد زعمهم - نتيجة عضويتها في الاتحاد، ومن ثم سيكون لديها صلاحية مطلقة لصياغة استراتيجيتها الاقتصادية بمنأى عن قواعد الاتحاد ومحدداته التي تعوق تسريع وتيرة النمو الاقتصادي، كما ادعوا، ومن ثم سيسترد الاقتصاد البريطاني عرشه الذي فقده في أعوام عضوية الاتحاد.
فهل تحقق ذلك في الأعوام الخمسة الماضية، هل توجد أي مؤشرات على أن أداء الاقتصاد البريطاني يتحسن، أو يسير في الطريق الموعود؟
هنا تحديدا تكمن المشكلة، فالتقييم الموضوعي المحايد يبدو صعبا رغم مرور الأعوام الخمسة. فأنصار البقاء يستشهدون بالأرقام والإحصاءات على أن الاقتصاد البريطاني يسير من سيئ إلى أسوأ جراء الانفصال عن أوروبا، وأن الأداء العام يتراجع.
المدافعون عن فك الارتباط لا يقبلون بذلك ويردون أيضا بأرقام وإحصاءات وأرقام تدعم موقفهم.
حتى الآن يصعب الجزم بشكل قاطع إذا ما كان الخروج من عضوية الاتحاد سيئا أم إيجابيا للاقتصاد البريطاني. فخمسة أعوام مرت على التصويت لمصلحة الطلاق بين الطرفين، لكن في التطبيق العملي ظل الأخذ والرد متواصلا بينهما حتى وقع الطلاق البائن في منتصف ليل آخر يوم في 2020.
"الاقتصادية" استطلعت آراء مجموعة مختلفة من الاقتصاديين في مسعى لتكوين تصور عن وضع الاقتصاد البريطاني بعد مرور خمسة أعوام على استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي، وإلى أي مدى يمكن أن يسهم المشهد الراهن في استشراف الصورة المستقبلية لاقتصاد المملكة المتحدة.
يرى الدكتور ديفيد بروس أستاذ التنمية الاقتصادية في جامعة ديرهام أن الصعوبات التي يمر بها الاقتصاد البريطاني لا تنفي نجاحه في تحقيق إنجازات خلال الفترة القصيرة من عمر خروجه الفعلي من الاتحاد الأوروبي التي لا تزيد على ستة أشهر، وفي ظل جائحة كورونا، والعراقيل التي يضعها الأوروبيون أمام بريطانيا.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "يتوقع أن ينمو الاقتصاد البريطاني بنسبة 6.4 في المائة هذا العام، وحاليا بريطانيا لديها أفضل ثاني اقتصاد في مجموعة دول السبع، ويمكن أن تكون أسرع اقتصادات المجموعة نموا حتى عام 2050، ويمكن للنمو الاقتصادي طويل الأجل في المملكة المتحدة أن يتفوق على دول الاتحاد الأوروبي الرائدة مثل ألمانيا وفرنسا، وفي المتوسط سيكون معدل نمو الاقتصاد البريطاني حتى منتصف القرن نحو 1.9 في المائة، وهناك شهية دولية للاستثمار في بريطانيا، إذ ارتفعت التدفقات المالية على صناديق الاستثمار المتداولة في بورصة لندن بنحو 126 في المائة منذ 2016".
للوهلة الأولى تبدو النتائج إيجابية، وبعضها يدعمه بنك إنجلترا "البنك المركزي البريطاني" بقوة، الذي أعلن في بيان له أخيرا أن اقتصاد المملكة المتحدة سيتمتع بأسرع نمو له منذ أكثر من 70 عاما هذا العام، ومن المتوقع أن يتوسع الاقتصاد بنسبة 7.25 في المائة مع زيادة الإنفاق الحكومي للمساعدة على الحد من فقدان الوظائف، وأن هذا الانتعاش يأتي في أعقاب 2020 وهو عام كارثي على الاقتصاد العالمي عامة والبريطاني على وجه الخصوص، إذ أدى تفشي وباء كورونا في بريطانيا وسياسات الإغلاق الحكومي إلى انكماش بنسبة 9.9 في المائة وهو أكبر انكماش في 300 عام.
لكن الذين صوتوا لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي واعتبروا استفتاء الخروج من الاتحاد تخريبا اقتصاديا للذات، يصرون على موقفهم رغم تلك النتائج.
الدكتورة فيونا فيسك عضو اللجنة المالية في بنك إنجلترا بين 2002 و2009، والاستشارية حاليا في برنامج الأمم المتحدة للتنمية، ترى أن تلك الأرقام تجتزأ من سياقها.
وتقول لـ"الاقتصادية"، "إن الزيادة في النمو أخبار جيدة بلا شك، لكن رغم ارتفاع معدلات النمو فإنها لن تفعل أكثر من إعادة الاقتصاد البريطاني إلى حجمه 2019، فتعافي العام الجاري لا ينفي أننا عانينا عامين بلا نمو، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن تلك الزيادة في النمو نتيجة طبيعية لإعادة فتح قطاعات واسعة من الاقتصاد بعد نحو عام ونيف من الإغلاق، وليس نتيجة تدابير اقتصادية ترفع من القدرة الاقتصادية لبريطانيا، فالمكاسب القوية في الناتج المحلي الإجمالي تتآكل، وسيكون أقل بما يصل إلى أربع نقاط مئوية في الأعوام المقبلة، مقارنة بما كان يمكن أن يحدث لو بقيت المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي، وعلينا أن ندرك أن الإنتاجية في بريطانيا تنخفض، وهذا يعني تقلص القدرة التنافسية للشركات البريطانية".
ويعزز فرانك تيرنر الخبير والباحث الاقتصادي في الاقتصاد البريطاني وجهة النظر تلك عبر رصده لعاملين يعدان من الركائز الرئيسة لآليات عمل الاقتصاد البريطاني، الذي يري أنهما تضررا بشدة نتيجة التصويت لمصلحة الخروج من الاتحاد.
ويؤكد لـ"الاقتصادية" أنه لأسباب تاريخية متعلقة بطريقة تطور الاقتصاد البريطاني، كان الجنيه الاسترليني وتجارة بريطانيا الدولية عصب المنظومة الاقتصادية الوطنية، وقد تدهور الاثنان بشكل واضح ومنتظم منذ الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولا يوجد في الأفق مؤشر على استعادتهما توازنهما المفقود، فلا توجد علامة على أن الجنيه الاسترليني سينتعش بما يكفي لمحو الانخفاض الهائل في قيمته في مواجهة العملات الدولية الأخرى، ومنذ ظهور نتيجة الاستفتاء 2016، وهو من أسوأ العملات الرئيسة أداء، ومهما كانت القوى الاقتصادية التي تستطيع بريطانيا حشدها، فلن تستطيع تعويض تراجعه أمام الدولار، الذي بلغ من حينها وحتى الآن نحو 6.3 في المائة.
أما عن التجارة الخارجية فيعد فرانك تيرنر ما تحقق حتى الآن هزيلا للغاية، فكل ما تم توقيعه من اتفاقيات يتمثل في اتفاقية تجارة حرة مع أستراليا، وفيها عديد من الثغرات التي جعلت القطاع الزراعي في بريطانيا يعترض عليها، كما أن التجارة الخارجية لبريطانيا تراجعت منذ 2018 بنحو 14 في المائة، وقد كشفت الإحصاءات الرسمية الخاصة بالنصف الأول من هذا العام أن تجارة بريطانيا مع أكبر شركائها التجاريين وهو الاتحاد الأوروبي انخفضت بنسبة 23 في المائة.
لا تروق تلك الاعتراضات لأوين مارتن صن الخبير المصرفي ويعدها متعجلة، ولا تأخذ في الحسبان طبيعة التغيرات التي مر بها الاقتصاد العالمي، من تزايد النزعة الحمائية، وتقلص التجارة الدولية، وما يصفه بالعراقيل التي يبذلها قادة الاتحاد الأوروبي للتأثير سلبا في مراكز القوى في الاقتصاد البريطاني، وأبرزها قطاع الخدمات المالية، عبر إيجاد مراكز مالية أوروبية متعددة على أمل سحب البساط من تحت أقدام بريطانيا في هذا المجال، وتلك التحديات الأوروبية تسببت في انخفاض صادرات الخدمات البريطانية بمقدار 114 مليار جنيه استرليني بين 2016 و2019.
ويعد أوين مارتن أنه على الرغم من الاتفاقيات الرسمية فإن العلاقات مع الجانب الأوروبي متوترة، واشتبكت لندن مع بروكسل حول الصيد وصادرات لقاح فيروس كورونا والترتيبات الجديدة لأيرلندا الشمالية، التي تواصل اتباع بعض قواعد الاتحاد الأوروبي بهدف الحفاظ على حدود برية مفتوحة مع جمهورية أيرلندا العضو في الاتحاد.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "إنه على الرغم من كل تلك المصاعب فإن معدلات البطالة المتوقعة حاليا 5.5 في المائة هذا العام، وهي أقل بكثير من 7.75 في المائة التي توقعها بنك إنجلترا في شباط (فبراير) الماضي، كما أن توقعات البطالة في الأمد الطويل ستنخفض بشكل كبير، التضخم يقع حاليا في نطاق0.7 في المائة، ومع ذلك من المتوقع أن يرتفع بشكل حاد إلى هدف بنك إنجلترا 2 في المائة في الأشهر القليلة المقبلة".
ويضيف "النقطة الإيجابية أن بريطانيا لا تزال تحافظ على مرتبة متقدمة للغاية في جذب الاستثمار الأجنبي مقارنة بدول القارة الأوروبية، إذ تحتل المرتبة الثانية بعد فرنسا، وعلى الرغم من أنها فقدت تاج قبلة الاستثمارات الأجنبية في أوروبا في 2019، فإن المنافسة بينها وبين فرنسا متقاربة إلى حد كبير، ففي العام الماضي ضمنت بريطانيا 975 مشروعا استثماريا داخليا مقارنة بفرنسا التي حصلت على 985 مشروعا، وإذا أخذنا في الحسبان أن الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي انخفض بنسبة 42 في المائة العام الماضي وهو أدنى مستوى له في الـ26 عاما الماضية، فإن الأداء البريطاني لا يزال جيدا، خاصة أن المستثمرين الأجانب يمتلكون 66 في المائة من الأسهم المدرجة في المملكة المتحدة".
يعزز هذا الرأي بعض الدراسات الاستقصائية الحديثة التي شملت 570 مستثمرا دوليا وأشارت إلى أن المملكة المتحدة ينظر إليها على أنها أكثر مواقع الاستثمار جاذبية في أوروبا.
تضارب الآراء وعدم التوصل إلى نتيجة محددة بشأن تأثير الانسحاب من الاتحاد الأوروبي في الاقتصاد البريطاني ومستقبله، يكشفان أن الانقسام بشأن تلك الخطوة لا يزال قائما في المجتمع البريطاني، وأن أولئك الذين يؤيدون المغادرة لم يتأثروا بالسلبيات الاقتصادية التي ظهرت نتيجة هذا القرار المصيري.
ما يمكن قوله إنه مع مرور الأعوام سيكون من الأسهل على الاقتصاديين تحليل مدى إيجابية وسلبية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بالنسبة إلى اقتصاد المملكة المتحدة، ومع ذلك فإنه في الوقت الراهن كلمات مثل السيادة والسيطرة على القرار الوطني لا تزال تسيطر على المناخ العام في البلاد أكثر من الاهتمام بالصادرات والواردات، إذ يبدو الطلاق بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي حالة سياسية أكثر منه حالة اقتصادية، أيا كانت أرباحها أو خسائرها.

الأكثر قراءة