تقرير حديث .. قطار الثقافة السعودية لا يتوقف
ألقت تبعات جائحة كورونا بظلالها على ثقافة العالم، مثلما مست أرزاق الملايين وحياتهم بأدق تفاصيلها، ففي وقت لم يكن مألوفا حضور أمسية شعرية عبر شبكة الإنترنت، بات ذلك خيارا مقبولا ومتاحا، تماما مثل تجارب أخرى استوعبتها التقنية وباتت بديلة عن الوسائط التقليدية، مثل جولات المتاحف الافتراضية، ومشاهدة الأفلام عبر منصات البث الرقمي، وقراءة الكتب من خلال الشاشات الذكية.
ملامح النمو التي شهدتها الثقافة السعودية خلال عام صعب كانت لافتة ومثيرة للإعجاب، وثقها تقرير "الحالة الثقافية في المملكة 2020، رقمنة الثقافة"، حيث يضع التقرير الواقع في نحو 300 صفحة جوانب التطوير التي طالت القطاعات الثقافية والآفاق المستقبلية لاستخدام التقنيات الرقمية، وتقرأ "الاقتصادية" أبرز ما ورد فيه.
للرواية حصة الأسد
في قراءة للتقرير الثاني من نوعه لوزارة الثقافة الذي شارك فيه نحو 70 جهة، إضافة إلى مسح شارك فيه أكثر من ثلاثة آلاف شخص، و18 جلسة نقاشية مع 130 ممارسا وخبيرا ومسؤولا، نلمس ارتفاعا في إجمالي العناوين الأدبية المنشورة، فقد وصلت إلى 663 عنوانا، ثلثها من نصيب الرواية، إذ صدر خلال العام 201 رواية (123 منها لروائيات)، وهو أعلى معدل تحققه الرواية في عام واحد، وعلى العكس، انخفض عدد الكتب المترجمة إلى 513 كتابا، بعد أن وصل الإجمالي إلى 600 كتاب سنويا خلال الخمسة أعوام الماضية.
وبالتوازي مع ذلك، برزت اللقاءات والأمسيات الأدبية الافتراضية، وبلغت نسبة حضورها 3.6 في المائة، ولا تعبر النسبة عن ضمور في الإقبال على حد تعبير التقرير، بحكم طبيعة النشاط الذي تجذب شريحة محدود من المهتمين.
وفي طيات التقرير توثيق لأبرز الإنجازات والمبادرات والبرامج والفعاليات والمشاريع الثقافية، مع وثبات واضحة في مجال التحول الرقمي، الثيمة الأساسية للتقرير في نسخته الثانية، إذ يعبر عنها نمو عمليات الحفظ والتوثيق، والإقبال على التسوق والتجارة الإلكترونية بنسبة 364 في المائة مقارنة بالعام الذي سبقه، وارتفاع في عدد المتاجر الإلكترونية السعودية، كانت للأزياء كقطاع ثقافي حصة كبيرة منها.
وبالحديث عن النمو، كان قطاع الأفلام على رأس القطاعات الثقافية نموا وتوسعا خلال العام الماضي، حيث شهد تقديم منح إنتاج وتطوير من مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي ومسابقة "ضوء"، والمقدمة من وزارة الثقافة ممثلة في هيئة الأفلام وبرنامج جودة الحياة، لكن ظروف الجائحة أثرت في إقامة الدورة التأسيسية الأولى من المهرجان السينمائي، فألغيت واختار مهرجان أفلام السعودية إقامة نسخة افتراضية أنعشت القطاع أثناء فترة العزل الوقائي وحصدت على "يوتيوب" 63 ألف مشاهدة.
ولعل اللافت في أرقام التقرير، أن عدد التذاكر السينمائية المبيعة حققت رقما قياسيا بلغ 6.6 مليون تذكرة، رغم إغلاق السينما من شهر مارس إلى شهر يونيو، وبناء على أرقام الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع كان نصف هذه التذاكر من نصيب الرياض، ومليونان لدور عرض جدة، والبقية توزعت على ثماني مدن.
وعطفا على الحديث عن السينما، فقد أصدر مجلس إدارة الهيئة قبل أيام قرارا يقضي بإعفاء الأفلام المحلية من أي مقابل مالي للهيئة على التذاكر، كما أقر تخفيض المقابل المالي المقتطع للهيئة من كل تذكرة ليكون ثلاث فئات حسب المناطق (15، و10، و5 في المائة)، بدلا عن المقابل المالي المقتطع سابقا البالغ 25 في المائة، لتمكين تطوير صناعة السينما وتعزيز وصولها لكل المواطنين والمقيمين وتيسيرا على المستثمرين.
أكثر المتضررين
في ظل موجة إغلاق المرافق الثقافية، وإلغاء المعارض والفعاليات، كان المسرح أكثر المتضررين ثقافيا، فبعد أن بدأ نشاطه قويا مطلع العام، ما لبث أن توقف لظروف الجائحة، ليبلغ إجمالي العروض المسرحية المقدمة 68 عرضا مقابل 169 عرضا قدمت عام 2019، مع ظهور تجربة وحيدة لتقديم مسرح افتراضي، لم تلق نجاحا يذكر.
أما الفنون الأدائية، فوجدت إقبالا كبيرا جاوز نصف مليون شخص، وذلك في الربع الأول فقط من العام للعروض التي نظمتها الهيئة العامة للترفيه، تنوعت ما بين الفنون الاستعراضية وألعاب السيرك والاستانداب كوميدي، مع مبادرات نوعية وتطورات تنظيمية، مثل تأسيس المسرح الوطني مطلع العام، ثم تأسيس هيئة المسرح والفنون الأدائية.
لكن الموسيقى، وتحديدا الفرقة الوطنية الموسيقية، تعطلت أعمالها، ولم تنجح كذلك الحفلات الافتراضية في أن تحل بديلا عن الحفلات الحية، فمعدل حضور الحفلات الموسيقية الافتراضية لا يتجاوز 2.5 في المائة في مسح المشاركة الثقافية الذي أجرته الوزارة، في إشارة إلى عدم قدرة هذا النوع من الحفلات على جذب الجمهور، في حين جذبت الفعاليات الرقمية نحو 10 في المائة فقط من العينة.
الفعاليات والمهرجانات بدورها تعرضت لضربة قاسية، إذ انخفض عدد الفعاليات المرخصة من هيئة الترفيه إلى 162 فعالية في الشهور العشرة الأولى من عام 2020، مقارنة بـ 502 فعالية خلال الفترة ذاتها من العام السابق، مع حضور بلغ نحو 3.7 مليون شخص، مقارنة بفعالية واحدة فقط مثل موسم جدة جذبت 14 مليون زائر في عام 2019، وصاحب ذلك تأثير في مؤشرات السياحة الثقافية، مثل انخفاض نسبة حضور سياح الداخل للفعاليات.
وساق التقرير إحصائية حول عدد مواقع الفعاليات والمهرجانات المسجلة لدى هيئة الترفيه، وبلغت 1128 موقعا، نحو 60 في المائة منها في المنطقة الوسطى، و16 في المائة في المنطقة الغربية، والنسبة المتبقية في المناطق الأخرى.
متاحف تتوقف نهائيا
وثق التقرير تحولا رقميا كبيرا في الثقافة السعودية، عبر إقامة فعاليات وملتقيات أدبية افتراضية، وجولات إلكترونية للمتاحف والمواقع الأثرية والتراثية عبر الإنترنت، ووسط هذا التحول الإيجابي، وجد بعض المتاحف الصغيرة والمعارض الفنية والمهرجانات والحرفيين صعوبة في التعامل مع تأثيرات الجائحة، لطبيعة النشاط، أو محدودية الموارد والإمكانات، ونتيجة لذلك يعتزم 15 في المائة من أصحاب المتاحف الخاصة إيقاف نشاطهم تماما بعد الجائحة، من إجمالي 261 متحفا خاصا.
ونظرا للظروف ذاتها، أقامت المؤسسات والصالات الفنية 162 معرضا، مقارنة بـ 255 معرضا في العام السابق، فيما تم تمديد مبادرة عام الخط العربي لعام آخر، وتوقفت المكتبات ومثلها المتاحف عن استقبال الزوار منذ منتصف شهر مارس، وعاودت بعد أشهر طوال لاستقبال الزوار بعد تطبيق الإجراءات الاحترازية.
وإلى قطاع العمارة والتصميم حيث لم يتوقف نشاطه، لكن مكاتب التصميم وجدت تحديا في إحجام القطاع الخاص وصعوبة تنفيذ المشاريع في مراحلها الأخيرة عن بعد، مع بروز مفاهيم جديدة في تصميم المنازل، تهتم بمساحات المعيشة والأفنية الخارجية ومنافذ الضوء والتهوية.
وواصلت بدورها بعثات التنقيب الـ 13 أعمالها في المواقع الأثرية، وكشفت النقاب على كنوز أثرية أعلن عنها في حينه، واستمرت أيضا جهود الحفظ والتوثيق وترميز مباني التراث العمراني، بالتزامن مع مشروع ترميم وتأهيل مباني التراث ذات القيمة المعمارية والتاريخية وسط الرياض، فيما تأثر الحرفيون جراء توقف أعمالهم، وتلقى نحو 600 حرفي وحرفية منهم دعما ماليا لتعويضهم عن توقف نشاطهم خلال فترة العزل الوقائي.
ومن المشاريع الثقافية المهمة خلال عام الكورونا أصدرت وزارة الثقافة تراخيص تعليم وتدريب لأول معهدين موسيقيين في المملكة، إلى جانب تأسيس مركز حماية التراث الثقافي المغمور تحت مياه البحر الأحمر والخليج العربي، ومشروع (تدوين) لرقمنة مواقع الفنون الصخرية والنقوش الكتابية، لتثبت هذه الخطوات مجتمعة أن قطار الثقافة السعودي لم يتوقف كثيرا عند محطة كورونا.