الهياكل التمويلية القائمة وضرورة تطويرها ..
صراع دائم بين المالي والإداري، فالمالي يريد للمال المصروف أن يحقق أعلى إنتاجية ممكنة بشكل مستدام في جميع القطاعات والمجالات، فهو يدرك أن هناك عدة أشكال لصرف المال تتفاوت في تحقيق الاستدامة من الصفر إلى المائة، ويسعى لأن يكون الصرف المالي موجها لتلك التي تحقق أعلى درجات الاستدامة، حيث يدور المال المصروف في دورات مالية متتالية في السوق الذي يعمل فيه بالشكل الذي يجعله يوفر السلع والخدمات بجودة مناسبة وأسعار متناولة، وبالشكل الذي يجعله ينمو بمرور الزمن.
الإداري يريد أن يحقق الأهداف والنتائج المطلوبة بأقل وجع رأس ممكن، وبالتالي فهو يريد المال لكي يصرفه لتوفير السلع والخدمات خصوصا الأساسية منها دون النظر لموضوع الاستدامة، وهو ما يجعله يطلب المال للتطوير، ومن ثم يطلب المال للتشغيل وأخيرا للصيانة، وكل ذلك بجودة متواضعة وبمدد زمنية مفتوحة في الكثير من الأحيان، وهو ما يرهق الموازنات خصوصا الحكومية.
موازنتنا الحكومية يشكل النفط المتذبذب الأسعار الرافد الرئيس لها، وبالتالي فلا يمكن الاعتماد عليها بشكل رئيس لتوفير السلع والخدمات من خلال الصرف على التطوير والتشغيل والصيانة بشكل مستمر، خصوصا إذا علمنا أن السكان في نمو كبير يتطلب التوسع في التطوير والتشغيل والصيانة بشكل سنوي بشكل يصعب تحقيقه مهما تعاظمت إيرادات النفط.
المؤسسة المالية في بلادنا تتمتع بفكر إداري ومالي متميز أسهم بشكل كبير في تحقيق الأهداف التنموية في السابق في مجتمع ناشئ يعاني ندرة في الموارد البشرية المؤهلة في الإدارة المالية، فضلا عن بقية أشكال وصور الإدارة جعلت من الفجوة بين القائمين على هذه المؤسسة والقائمين على الكثير من الأجهزة الحكومية، إضافة إلى مجتمع الأعمال فجوة كبيرة بشكل جعلها تتحفظ على بعض الأدوات المالية, إضافة إلى اللجوء لسياسات تمويلية واستثمارية متحفظة جدا بما يتناسب والظروف القائمة للوقاية من الهزات المالية التي لا تحمد عقباها، وهذا شيء متوقع بل ومطلوب ويشكرون عليه واتضحت نتائجه الإيجابية في هذه العاصفة المالية التي يعيشها العالم اليوم.
الهيكلة المالية في بلادنا ومنذ أكثر من ثلاثة عقود تشتمل على وزارة المالية ومؤسسة النقد العربي السعودي كجهات منظمة ومراقبة وممولة وداعمة ومستثمرة (صندوق الاستثمارات العامة) والتي تم تعزيزها بهيئة السوق المالية عام 2004م كجهة منظمة ومطورة للسوق المالية، كما تشتمل على البنوك التجارية المحدودة المعروفة، والبنوك التنموية (الزراعي، الصناعي، العقاري... إلخ )، إضافة إلى بعض الكتل المالية التي تلعب دور الممول في كثير من الأحيان، هذه الهيكلة حققت نتائج جيدة في توفير التمويل اللازم للتنمية في جميع مجالاتها رغم ما عانته بعضها من سوء في صرف المخصصات التمويلية خصوصا البنوك التنموية التي بددت المليارات التي كان بعضها ضرره أكثر من نفعه (الزراعي مثالا) فضلا عن معاناتها في تحصيل ديونها لأسباب غير مقنعة، وهو ما أدى في المحصلة إلى ضعف دورها التمويلي كما هو ملحوظ الآن.
الواقع أصدق أنباء من الكتب، إذ استشعرت حكومتنا الرشيدة صعوبة الاستمرار المضي قدما في توفير الخدمات والمنتجات (طاقة، ماء، تعليم، صحة، طرق... إلخ) من خلال قيامها بجميع الأدوار ( التطوير، التمويل، التشغيل والصيانة) لأسباب كثيرة تتعلق بالجودة والتكلفة والوقت، وهو ما جعلها تنادي بمشاركة حقيقية وفاعلة للقطاع الخاص السعودي بل وحتى الأجنبي للقيام بذلك لتوفير السلع والخدمات بالجودة المناسبة والأسعار المتناولة وفي الوقت الملائم بما يحقق الأهداف التنموية الشاملة والمتوازنة المستدامة لتتفرغ للتنظيم والتحفيز والحماية وتطوير وتمويل وتشغيل المشاريع غير ذات الجدوى الاقتصادية.
القطاع الخاص السعودي وللأمانة تطور بشكل جزئي بما لا يتناسب ومتطلبات هذه المرحلة، وشاهِدنا في ذلك ندرة الشركات القيادية ذات الفكر الإداري والمالي المتميز الذي يتماشى مع معطيات المرحلة ومتطلباتها، حيث لا تزال الأغلبية لم تتواءم مع المتغيرات الإدارية والاقتصادية العالمية، وهذا لا ينفي وجود شركات متميزة في كثير من القطاعات تمثل إضاءات واعدة ونماذج محفزة للآخرين للتطور.
هذه الشركات القيادية النادرة تعاني ضعف الهيكلة التمويلية القائمة الحالية التي أصبح من الضروري مراجعتها وتطويرها لتصبح هيكلة تمويلية قادرة على الوفاء بمتطلبات المرحلة الحالية والمستقبلية، والتي ستشهد دورا أكبر للقطاع الخاص السعودي منفردا أو متحالفا مع الشركات العالمية الإقليمية والأجنبية، والمعاناة لا تتمثل فقط في ضعف آليات التمويل لمشاريع تلك الشركات بل تتعداها لضعف توجيه التمويل للأفراد والشركات الصغيرة والمتوسطة في جميع القطاعات والأنشطة الاقتصادية بما يجعلها ذات أثر فاعل ومستدام من ناحية، وذات أثر إيجابي لصالح نمو الشركات القيادية السعودية كما ونوعا في جميع القطاعات الاقتصادية، فهل نرى من جهود تصب في هذا الاتجاه ؟ كلنا ثقة بالمؤسسة المالية السعودية المتميزة بل والمتفردة في إدارة المشهد المالي في بلادنا العزيزة للقيام بذلك بأسرع وقت ممكن.