بإعادة صياغة مفهومي "الربح" و"الاستهلاك" تنتهي الأزمة!
الأزمة المالية الحالية التي تعيشها دول العالم، كانت نتيجة مسببات. هذه المسببات تأتي على أساس فني في الآلية التي حدثت بها، وأدت بنا إلى هذه النتيجة من فقدان الصورة بسبب الأصول السامة التي تجاوز حجمها حسب بعض الدراسات نحو 14 تريليون دولار (سبق شرح كيف حدثت الأزمة فنياً في مقال سابق) . ولكن الأهم أن المعالجات التي تحاول اليوم الخروج من تلك الأزمة تنسى أو تتجاهل المفاهيم التي بسببها حدث ما حدث. إذن ما تلك المفاهيم.
ولتوضيح الصورة وربطها بالجانب الفني المباشر للأزمة وكذلك لإعطائها الأبعاد التي تستحقها، نجد أن هناك حلقة مفرغة يعيشها الغرب اليوم وقد يأتنا الدور أيضا! وبشكل أوضح الولايات المتحدة. هذه الحلقة هي أن الشركات بدأت عملياً تقليص نفقاتها، وعلى رأس هذه النفقات مصروفات الموظفين من خلال عمليات متكررة للتسريح. حيث سجل شباط (فبراير) في أمريكا تسريح ما يزيد على 600 ألف وظيفة، وتجاوزت معدلات البطالة 8 في المائة وتراجع الإنتاج الصناعي بنسبة 4 في المائة. ومن هنا بدأت قصة المسلسل بأولى الحلقات. حيث إن هؤلاء العاطلين بدأوا في تقليص نفقات الاستهلاك وجعله في حدوده الدنيا أو يعيشون في الخيام وعلى التبرعات، كذلك المواطنين غير المسرحين بدأوا في تقليص الإنفاق الاستهلاكي خشية أن يصبحوا بلا عمل في أي لحظة، وبالتالي عليهم توفير بعض النقد. وهو الأمر الذي يسبب مزيداً من الخسائر للشركات حيث إن الطلب على منتجاتها سوف يتراجع بتراجع الاستهلاك العام، وهو ما يجعل تلك الشركات تتخذ قرارات بمزيد من التسريح للموظفين مع تراجع النتائج المالية وسياسة خفض الإنفاق. إذن المزيد من تراجع الاستهلاك يعني المزيد من التسريح للموظفين وهو ما يعني عملياً تراجع الاستهلاك أكثر (قصة الذئب والخرفان). إذن لا بد من إيقاف هذه الحلقة المفرغة إذا ما أرادوا تجاوز الأزمة أو إيقاف التدهور. ولكن كيف؟ وبأي مفاهيم؟
وهذا الحال يُبرز إحدى أهم سلبيات الرأسمالية الغربية بمفاهيمها الحديثة، المفهوم الأول للرأسمالية الذي أخذ زخما وقوة وهو مفهوم "النمو المستمر" في أرباح الشركات وبالتالي الناتج لاقتصادات الدول. ففي العقود الماضية، كان هناك تركيز واضح محاسبياً واقتصاديا على عنصر النمو في أرباح الشركات وأصبح عامل حكم على مدى قدرتها ونجاحها! وأنا هنا لا أعترض ولا أرفض المفهوم ولكن أعترض على فكرة جعله ضرورة ولازمة على الشركات لتحقيق أرباح مستمرة مصحوبة بمستويات نمو مستمرة عن الفترات السابقة، وبشكل قصير الأجل (ربع سنوي) بحيث إن النتيجة تصبح كارثة كبيرة إن لم تحقق الشركة هذا الهدف أمام المستثمرين. حتى نحن كمحللين ماليين، أصبح هذا المعيار إحدى أدوات التقييم المهمة في مسيرة الشركة، بل وصلنا في مرحلة ما إلى ضرورة أن يكون لدينا القدرة على تقييم قدرة الشركة على النمو المستقبلي أيضا. الأمر الذي جعله الهم الأوحد، والخط الأحمر لإدارات الشركات وبالذات المساهمة منها. ونتيجة نهم لا ينقطع في تحقيق مزيد من الأرباح، إذن المال أصبح غاية في حد ذاتها.
المفهوم الآخر هو "الاستهلاك" كوسيلة لتحقيق المفهوم الأول وهو الربح. العجلة الاقتصادية لا تسير إلا بمزيد من الاستهلاك، بحاجة أو دون حاجة. وهي معادلة إقناعنا العالم الغربي بها وطبقها وطبقناها بشكل جنوني! وهذا مفهوم رسخ عبر مكائن ضخمة من الوسائل التي جعلت الفرد عبارة عن مستهلك لا قيمة له، إلا بما يملك من أدوات استهلاكية. وهو ما جعل العالم مسعور بكل الأدوات التي تشجع على الاستهلاك لأنه هو الذي يحقق مزيدا من الأرباح وبالتالي يحقق المفهوم الأول للرأسمالية الغربية وهو النمو المستمر في أرباح الشركات ونتائج اقتصادات الدول. انظر ما حدث للبيئة بسبب جنون الاستهلاك هذا!
وهذا يقودنا للحديث عن المصرفية الإسلامية، التي يتغنى بها البعض وحاول تسويقها كحل لمشكلات الغرب، وذلك عندما حاولت أن (تؤسلم) الآليات وتلبسهما ثوبا شرعيا، رغم أن الشريعة جاءت بالمفاهيم ولم تأت بالتفاصيل والشكليات! ما يحدث من منتجات تنعت اصطلاحاً (بالإسلامية) فيها كثير من التركيز على الشكل، دون التبصر في المضمون. فعلى سبيل المثال، التقسيط حلال والقرض المباشر حرام!! رغم أن تحريم الربا لم يكن شكلاً، لكنه مضمون وشكل. لقد أوجدنا بأسلوب التقسيط الشكل الحلال (المؤسلم) فكرياً، ولم نوجد المضمون الحلال (شرعيا) وعملياً، والذي هو أن الربا حرام، وهو صناعة المال بالمال، حتى لا يكون المال عنصر متاجرة وإنما وسيلة مساعدة، والبيع حلال (في الأصل) الذي هو مربوط بالحاجات الحقيقية للأفراد والمجتمعات دون مغالاة ومبالغة في عنصر الاستهلاك وتسريع لدوران العجلة الاقتصادية بعيداً عن الحاجة. المال في الإسلام ليس (ميكافيلي) الصبغة، حيث الغاية تسبق الوسيلة! وبالتالي عندما يشتري شخص سيارة بهدف إلى أن يكون القرض حلال، وهو بحاجة إلى النقد وليس السيارة، ويقوم بعد الشراء مباشرة دون أن يتسلم مفاتيحها ببيعها مرة أخرى للحصول على النقد بخصم كبير، يكون قد حقق الشكل الحلال للعملية رغم أنه غُبن مرتين في سعر الشراء لأنة بالآجل وخصم البيع المباشر. بيد أن المضمون لم يتغير حسب المفهوم الغربي! الأمر الذي نتساوى فيه مع الغرب في المفهومين: النمو في الأرباح والاستهلاك دون ضوابط، حتى وإن قدمنا منتجات بصيغ وشكل إسلامي، يبقى السؤال الكبير عن جوهر تلك المنتجات، وهل تحقق الغاية من التحريم والتحليل؟!!
أختم بأنه ما لم يتغير كثير من المفاهيم التي قامت عليها الرأسمالية الغربية المسيطرة اليوم على الاقتصاد العالمي، حتى وإن كان هناك بعض المحاولات التي تأخذ طابع المحلية أو المذهبية للتطبيقات على أرض الواقع، فإن الإجراءات والمحاولات الحالية للحد من تبعات الأزمة لا تعدو محاولات (علاقات عامة) غير (ممنهجة) لاسترجاع الثقة بالاقتصاد الأمريكي، وبالتالي الاقتصادات الأخرى التابعة. فعندما يعلن الرئيس الأمريكي أن أمريكا تضمن للصين والدول الأخرى أذونات الخزانة والسندات الحكومية وكذلك استثماراتهم العامة في أمريكا، فهي دلالة على أن هناك حقيقة أن أمريكا بحاجة إلى الآخرين أكثر من حاجة العالم لأمريكا. لكن كيف تتم الاستفادة من هذه المرحلة التاريخية المفصلية في تاريخ أمريكا بشكل خاص والعالم بشكل عام لمصلحة الأمة! الأمة بمفهومهما العام! كيف نقتنص الفرصة، ونقدم الحلول، ونكون قادة منقذين للعالم الغارق في لجُيات الأزمة المالية دون حلول مبدعة بعيداً عن التقليدية. والتوقع أن يأخذ علماء الغرب ومفكريه خيط الإسلام ويقدموا الحلول الإسلامية ذات المضمون وليس الشكل كما قدمها علماؤنا!!!