«الرجل الذي باع ظهره» .. بين معاناة اللاجئين وسماسرة الفن التشكيلي
واثقة الخطوة تمشي ملكة، المخرجة التونسية كوثر بنت هنية، عابرة عباب أمواج بحر "أوسكار" المتلاطمة، تخوض غمار تلك المغامرة بآلتها الفوتوغرافية بما راكمته من صور سينمائية ثرية ومكثفة في فيلمها الأخير، "الرجل الذي باع ظهره"، الذي اختارته "أكاديمية علوم الصورة المتحركة وفنونها" قبل أيام في اللائحة القصيرة لـ"أوسكار" 2021، التي سيتم إعلان ترشيحاتها النهائية في منتصف مارس المقبل، وقبل إقامة حفل توزيع الجوائز في 24 أبريل المقبل، وهو الفيلم العربي الوحيد الذي يشارك في فئة أفضل فيلم أجنبي.
"نعم فعلناها، وصلنا إلى القائمة المختصرة للأوسكار 2021"، بهذه الكلمات توجهت المخرجة كوثر بنت هنية إلى الجمهور، مزهوة بما حققته من نجاحات لدخولها سفيرة للسينما العربية إلى ميدان السباق بين عمالقة السينما العالمية من حول العالم. وبعيدا عن نمطها السائد في أعمالها السابقة، التي تشكل العلاقات بين النساء والرجال محورها الرئيس، أبدعت كوثر في فيلمها "الرجل الذي باع ظهره"، في بناء جسر يربط عالم الفن والحرية بعالم الحرب، مخترقة به حصون هوليوود المنيعة، واضعة الإبداع العربي وجها لوجه مع نظيره الأجنبي، محاولة سبر أغوار معنى الحرية.
قصة الهرب من الموت إلى العبودية
تدور قصة الفيلم حول "سام"، شاب سوري ذو إحساس مرهف، اضطر بعد تعرضه للتوقيف اعتباطيا إلى الهرب من دولته سورية الغارقة في الحرب، مهرولا نحو تحقيق حلم السفر إلى أوروبا، بعد أن حكمت عليه بثور الحرب بدخول السجن وملاحقته أمنيا، ففر إلى لبنان طلبا للأمان والحرية، ولم يجدهما هناك أيضا، بل عانى مرارة العيش وشقاء الحياة، ثم جاءته الضربة الكبرى بزواج حبيبته وسفرها إلى بلجيكا مع زوجها الدبلوماسي السوري، فيقرر الذهاب إلى هناك بأي ثمن لاستعادة حبيبته. هناك، في أوروبا التي وصلها بقبوله الصفقة إياها، يعرض في المتاحف مثل لوحة، مع الإضاءة المناسبة، يعطي ظهره لجمهور لا يراه، وبدوره لا يريد الجمهور رؤيته، لكن في خضم كل ذلك، يكتشف أنه فقد حريته التي طالما كان يطاردها ويبحث عنها، ولم يستطع "سام" تحمل نير العبودية والاستغلال الذي أصبح يعيشه، ما جعله يثور غضبا ويعود إلى مدينته الرقة، لكن القدر له بالمرصاد، ولم يكن منصفا، فجاءت نهايته بين أيدي أحد التنظيمات المتناحرة، الذي تخلص منه رميا بالرصاص. لينتهي الفيلم بطلب الرسام الشهير من سلطات دولته أن تعيد إليه لوحته الشهيرة المرسومة على ظهر جثة "سام".
كوميديا سوداء أم سخرية لاذعة
يحمل الفيلم بين طيات مشاهده وأحداثه سخرية سوداء من سوق الفن المعاصر، ويقدم نظرة مختلفة للاجئين، حيث نجحت المخرجة في طرح قضية اللجوء، بعيدا عن الصورة التقليدية التي يظهر فيها اللاجئ بالضحية، وبعيدا عن الواقع المؤلم والنظرة الوثائقية، وبنت الفيلم بصورة كأنه حلم، لذلك اهتمت كثيرا بالصورة وشكل الجسد في الفن واللغة البصرية في العمل. فحاولت بنت هنية أن تزين مأساوية واقعية ومعاناة اللجوء نفحات من ريشة الفن ولغته العالمية، مستعينة بسيناريو مترابط وغني بإسقاطات اجتماعية وسياسية، وبدقة كاميرتها المتناهية التي تسبغ دهاليز شخصيات طاقم الفيلم المتعددة الجنسيات، مغلفة الجسد البشري بأبهى فنون الرسم، جاعلة منه لوحة فنية خلابة، لكنه فاقد الروح، مجرد جسد موشوم متجول في معرض فني متنقل، وتنطوي مشاهد الفيلم على قدر لا بأس به من الكوميديا السوداء، والسخرية اللاذعة، منتقدة الاتجار بالبشر وعودة الرق، استغلالا لحاجات الإنسان تحت وطأة الهرب من نيران الحرب العبثية، ليحول الإنسان إلى عبد يبيع جلده باختياره. ويسجل للمخرجة نجاحها في الربط ببراعة بين عالمين مختلفين، عالم الفن المعاصر بكل ترفه، وعالم اللاجئين بكل فقره ومعاناته.
مونيكا بيلوتشي شقراء للمرة الأولى
الفيلم الذي يلعب دور البطولة فيه إلى جانب الممثل الكندي من أصل سوري، يحيى مهايني، كل من النجمة الإيطالية مونيكا بيلوتشي، والممثلين الفرنسيين ليا ديان، وكريستيان فاديم، والبلجيكي كوين دي بو، واللبنانية السورية دارينا الجندي، والتونسيين نجوى زهير وبلال سليم، والتصوير للبناني كريستوفر عون، وهو نفسه مدير تصوير فيلم "كفر ناحوم" للمخرجة نادين لبكي.
مستوحى من قصة واقعية
تتميز المخرجة هنية بأنها ذات توجه خاص في أفلامها التي حققت نجاحا على أكثر من صعيد، وهي تنقلت بين الوثائقي والروائي، وعرض فيلمها الوثائقي الطويل "الأئمة تذهب إلى المدرسة" في مهرجان أمستردام للأفلام الوثائقية، كما فاز فيلمها الثاني "زينب تكره الثلج" بجائزة "التانيت الذهبي" من مهرجان قرطاج خلال دورته الـ27، وعرض فيلمها الروائي الطويل الأول "على كف عفريت" في مهرجان "كان" 2017.
ويعد فيلم "الرجل الذي باع ظهره" خامس فيلم طويل في مسيرتها كتابة وإخراجا، وهو مستوحى من قصة واقعية من أعمال الفنان البلجيكي المعاصر "ويم ديلفوي"، الذي رسم وشما على ظهر رجل، وعرض العمل كلوحة فنية للبيع، جاعلة براعة كاميرتها، وتعابير شخصياتها، وكلماتها المسبوكة سبكا، تصب في تسليط الضوء على قضية إنسانية عابرة الحدود، وتردد أصداء فكرة نقدية رئيسة لواقعنا المجحف الذي يمنح حرية نقل البضائع ويحجز حرية حركة تنقل البشر، فالبضائع يمكن أن تنتقل بحرية في العالم، لكن ليس الأفراد، حتى عندما يتعرضون لأبشع أشكال الاضطهاد، فهم لا يمكنهم عبور الحدود دون تأشيرات سفر ممهورة بقوانين تخطتها مصالح الأقوى، بينما البضائع لا تحتاج إلا إلى إيصال يوضح أنه تم سداد الرسوم.
مافيا تجار الحرب وسماسرة الفن
أعمال كثيرة قدمها سينمائيون من أنحاء العالم، حول الحرب السورية، هذه الأعمال تثير أسئلة كثيرة، تتعلق بما جرى ويجري فيها، وقد وصل عدد من أفلام كهذه إلى مهرجانات سينمائية كبيرة، حققها مخرجون عديدون، كزياد كلثوم ووعد الخطيب وفراس فياض وغيرهم، إضافة إلى أفلام أجنبية، كـ"في سورية" الذي صدر عام 2017 للبلجيكي فيليب فان ليو، وفيلم "مطر حمص" الذي صدر عام 2014 للسوري جود سعيد، أما فيلم "الرجل الذي باع ظهره"، فتعدى تلك الصورة النمطية للحرب ليصل إلى سبر أعماق قضية إنسانية شمولية أخلاقية لفيلم صرخة ضد الواقع المرير، الذي يعيشه اللاجئون المعرضون لجميع أشكال الاستغلال، لكن بشكل أعمق في طرحها، حيث جمعت بين عالمي الفن والهجرة من خلال توليفة نادرة، فالفيلم هو تصوير لمعاناة اللاجئين واستغلال سماسرة الفن التشكيلي ومتاحفه.
يشار إلى أن فيلم "الرجل الذي باع ظهره" فاز أخيرا بجائزة في مهرجان الجونة السينمائي في مصر عن أفضل فيلم عربي روائي طويل، وسبق أن حاز في مناسبات سابقة الجائزة الكبرى للجمهور، وجائزة لجنة التحكيم الشابة لمهرجان السينما المتوسطية في فرنسا، كما فاز بجائزتين في مهرجان البندقية في إيطاليا.