قراءة في هموم نائب وزير العمل
يعد قطاع العمل في أي اقتصاد المحور والمرتكز الأساس لتقييم أي تجربة تنموية، فنجاح أي تجربة تنموية والسياسات الاقتصادية المرتبطة بها يظل دائماً مرهوناً بتحقيقها درجات عالية من التوظف للمواطنين بما يكفل مستوى مقبول من الدخل الفردي، لكن هذا القطاع لا يخلو في الغالب من المشكلات الهيكلية في أي دولة من الدول، فهو إما يعاني تدني مستوى الدخول نتيجة تدني موارد الدولة وفي الوقت نفسه تعداد عال للسكان، ما ينتج عنه في العادة هجرة لدول العالم الأخرى بحثاً عن العمل، وإما أنه يعاني تدنيا في إنتاجية المواطن العامل وعزوفه عن العمل في بعض القطاعات، ما يستدعي تعويض ذلك باستقدام العمالة من دول أخرى.
وعادة ما تطرح هموم سوق العمل من خلال كتاب الأعمدة الصحافية، لكن الأسبوع الماضي فاجأنا الدكتور عبد الواحد الحميد نائب وزير العمل بطرحه لهموم سوق العمل من وجهة نظر المسؤول عن هذا القطاع من خلال عمله كنائب لوزير العمل، لكن لا غرابة في ذلك إذا ما عرفنا أن الدكتور الحميد كان كاتب رأي متميز قبل أن يعتلي سدة المنصب الحالي. وجاءت المقالة بلغة المنهك من هموم هذا القطاع الحساس الذي يمثل في نظري أكثر التحديات الاقتصادية التي تواجه الاقتصاد السعودي في الوقت الحاضر، كما أنه سيظل التحدي الأكثر إثارة على مدى السنوات القليلة المقبلة.
مقالة الدكتور الحميد كانت إغراقا في الماضي لشرح أسباب الحاضر، ومحاولة للعودة سنوات إلى الوراء لتفسير الظواهر والمتناقضات التي تعانيها سوق العمل حالياً. وربط ذلك كله بتغيرات اجتماعية هي المسؤولة ـ حسب وجهة نظر الدكتور الحميد ـ عن مشكلات سوق العمل الحالية، فسوق العمل تعاني من بطالة بلغت 9.8 في المائة، في حين تضم في جنباتها أكثر من ستة ملايين عامل أجنبي، هذا دون احتساب مرافقيهم الذي يرفعون عدد الأجانب في المملكة إلى ما يتجاوز ثمانية ملايين نسمة. وهنا ـ حسب الدكتور الحميد ـ تجد وزارة العمل نفسها (تعمل في ظل هذه الأجواء المتناقضة المحبطة، مطلوب منها أن تفك رموز هذه الألغاز وتقود المجتمع إلى بر الأمان وأن يحدث ذلك بسرعة وبلا تضحيات ودون آلام).
إذ تعمل وزارة العمل ـ حسب رأي الدكتور الحميد ـ في ظل متناقضين رئيسيين أولهما تدني رغبة رجال الأعمال في توظيف المواطنين في مقابل توظيف العمالة الأجنبية الرخيصة، بغض النظر عن الأثر السلبي الاقتصادي أو الاجتماعي الذي قد ينتج عن ذلك. وثانيهما عدم رغبة المواطن العمل لدى القطاع الخاص وتفضيله العمل في القطاع الحكومي الأقل إنتاجية.
باختصار يفسر الدكتور الحميد هذا التناقض بالعودة إلى سبعينيات القرن الماضي أيام الطفرة الأولى التي ولدت الحاجة إلى الأجانب وكرست التواكل والتكاسل لدى المواطن، إلى أن تزايدت الفجوة بين رغبات كل من القطاع الخاص، الذي تزايد اعتماده على العمالة الرخيصة، وبين رغبات المواطن الذي لا يقبل بالأجور المنخفضة والعمل الشاق في القطاع الخاص وأوصلتنا إلى ما نحن عليه الآن.
وفي رأيي أن الدكتور الحميد قدم شرحاً جيداً للتراكمات التاريخية لمشكلات سوق العمل، لكنه لم ينجح في انتزاع براءة وزارته من مشكلات هذا القطاع عن طريق ربط هذه التراكمات بالمشكلات الحالية، فتراكم المئات على أبواب الدوائر الحكومية حاملين ملفات خضراء وقبولهم برواتب متدنية لا يعني أنهم متواكلين أو كسالى، لكن قد يكون السبب عدم توافر الحد الأدنى من الأمان الوظيفي لهم لكي يقبلوا بوظائف القطاع الخاص، ناهيك عن الأجور المتدنية لهم في القطاع الخاص بسبب مزاحمة الأجانب لهم، وهذا كله لا يعفي وزارة العمل من المسؤولية، بل يضعها في قفص الاتهام، إذ إن خلق بيئة عمل عادلة سواء للمواطن أو الأجنبي على حد سواء بحيث تكفل لهم حقوقهم، كل ذلك يقع في صلب مهام وزارة العمل.
والغريب أن الدكتور الحميد في حين يضع يده على المشكلة الحقيقية، وهي الأنشطة الطفيلية التي تكاثرت في الاقتصاد نتيجة تمتعها بميزة العمالة منخفضة الأجر، فإنه لم يذكر أي شيء يفيد في التعامل مع هذه الأنشطة الطفيلية التي تضغط الأجور وتعمق المشكلات الاجتماعية والاقتصادية في البلد، فكيف تعرف وزارة العمل الأنشطة الطفيلية وكيف تتعامل معها؟ وكيف تفرق الوزارة بين النشاط الطفيلي من غيره؟ ألا توجد استراتيجية لدى وزارة العمل بالتنسيق مع الجهات الحكومية الأخرى للحد من هذه الأنشطة الطفيلية التي تقتات على العمالة الرخيصة وعلى حساب المواطن؟
إن أمامنا في الاقتصاد السعودي شواهد على نجاح المواطن السعودي في القطاع الخاص طالما توافرت لديه البيئة الملائمة للعمل والإنتاج. ومن هذه الأمثلة البنوك التي استطاعت أن تحقق نسب عالية من السعودة في جميع قطاعاتها. وشركة أرامكو التي حققت أيضاً نسباً عالية من توطين الوظائف وفي جميع قطاعات الشركة الإدارية والفنية. أضف إلى ذلك شركة سابك وشركة الاتصالات السعودية وعددا من الشركات المساهمة الكبرى، أليست هذه نماذج تعكس النجاح الذي تصبو إليه وزارة العمل؟ إذاً المشكلة ليست في المواطن، ولكن في البيئة التي سيعمل فيها المواطن، وما دامت هذه البيئة ملائمة من حيث حفظ الحقوق وأداء الالتزامات، فإنني أؤكد أن النجاح سيكون حليف المواطن.
لذلك فإننا يا نائب وزير العمل لا نطلب من وزارة العمل أن تحل مشكلات العالم كلها، ولكن أن توفر بيئة عادلة وملائمة للعمل دون محاباة لأحد. وبالطبع فإن ذلك لن يتم من دون تضحيات كما ذكرت، والمهم أن تكون وزارة العمل ومسؤوليها أولاً على استعداد للتضحية ومواجهة الجميع بما يريدون القيام به لإصلاح سوق العمل.