التنمية المُستدامة... أهداف مرسومة أم آراء مطروحة!!

دشنت المملكة أول خطة تنموية لها عام 1389هـ وهي تهدف من وراء ذلك إلى إجراء تغيير جذري وشامل في طبيعة اقتصادها الوطني من اقتصاد صغير، متخلف، وأحادي المصدر إلى اقتصاد مُنوع وذي قاعدة إنتاجية عريضة بحيث يُحقق نقلة نوعية وكمية ويرفع العبء عن كاهل الاقتصاد الوطني من خلال خلق روافد جديدة للدخل والتخلص من الازدواجية الضاربة أطنابها في كل الاقتصادات الريعية. حقيقة الأمر، من الصعوبة تحديد تعريف واحد عام، شامل، وضاف للتنمية الاقتصادية لكن بالنظر إلى تعريف الاقتصادي بالدوين على أنها عملية مستمرة يزداد بواسطتها الدخل القومي الحقيقي لأي بلد من البلدان خلال فترة زمنية طويلة، فهو بهذا يضع ثلاثة عناصر رئيسية لتعريفه وتشمل التدخل البشري لإحداث التغيير كعملية مستمرة وليست عرضية أو مؤقتة، الزيادة الحقيقية للدخل الوطني، وكذلك تمامها خلال فترة زمنية طويلة وليست قصيرة. وبالنظر إلى التدخل البشري لتسيير عملية التنمية فلا بد من أن تشتمل على تغييرات في الأشياء والكميات وجوهرة تاجها الدخل الوطني الحقيقي. لكن لماذا أنشأنا جهازاً للتخطيط؟ هل الهدف من التخطيط ليُقال إن لدينا خططا؟ أم أن الهدف تحقيق تغيير حقيقي في البُنى الاقتصادية والاجتماعية كافة؟. لعلنا نكون واضحين في تعاطينا مع هذه القضية المهمة فمن أولويات التنمية زيادة الدخل الحقيقي، رفع مستوى معيشة المواطنين، تقريب وسد الفجوة والتفاوت بين دخول أبناء الوطن، وأخيراً تغيير وتعديل التركيبة الهيكلية للاقتصاد الوطني بما يحقق التوجه نحو القطاعين الصناعي والخدمي. من المفارقات العجيبة أن البلدان النامية دون استثناء ومنها بلداننا العربية بعامة في وضع يُرثى لها بالنظر إلى واقعها الاقتصادي المُر, الذي تُعانيه عبر سنوات طويلة من التجارب القاسية والمريرة حيث تم تتويجها بفشل ذريع في سياساتها الاقتصادية, التي لم تحقق الحد الأدنى من المجتمع الصناعي المنتج. هذه الاقتصادات تُعاني وبشكل حاد تقسيم اقتصاداتها المحلية إلى جزءين رئيسيين, الأول منهما حديث، متقدم جداً، ومتخصص بالتصدير إلى الأسواق الخارجية والآخر يتصف بالتخلف النوعي وضعف المساهمة في الناتج الوطني الإجمالي ويشمل القطاع الزراعي الضعيف والقطاع الصناعي المُتهالك، وبذلك هيمن قطاع التصدير من المواد الأولية بعامة كالنفط، الغاز، والقطن مثلاً، ما أدى إلى قتل طموح الجهود المبذولة لتطوير عمل المنظمين القادرين على اختراق أرضية الاستثمارات وتوظيفها لمصلحة التنمية الاقتصادية وتحقيق التنويع في القاعدة الإنتاجية. النمو الاقتصادي يتطلب التكامل ما بين القطاعات الاقتصادية بحيث يخدم كل منهما الآخر كمُحفز للنمو ومُحقق للوفورات للقطاع الآخر، على الجانب الآخر القطاع المتقدم فنياً وتقنياً يتمثل وجوده في صناعات التعدين والنفط والغاز وكذلك الصناعات الضخمة كالصناعات البتروكيماوية وتشمل أيضا الخدمات المتعلقة بهذا القطاع المتقدم من نقل وتأمين.. إلخ. أما بالنسبة للقطاع التقليدي فيتجسد في الزراعة والصناعات الحرفية التقليدية والصناعات الصغيرة. السمة الأساسية للقطاع المتقدم نموه بمعدل عال وبذلك يساهم في دفع التنمية المحلية بخطوات متسارعة ولكن ليست بقوة النمو والتطور للقطاع نفسه كونه عالي التقنية وغير قادر على امتصاص الأعداد الهائلة من طالبي التوظيف بسبب ضعف إمكاناتهم على استيفاء شروطه القاسية من ناحية التأهيل المتقدم والخبرات العالية، وعلى هذا فإن نسبة مساهمة القطاع النفطي المتقدم في توظيف الأيدي العاملة ضئيلة بالمقارنة بإنتاجيته العالية, التي قد لا تتجاوز الـ 2 في المائة من إجمالي قوة العمل. هذه الحالة من الانفصال أو الازدواجية بين القطاعات الاقتصادية يُطلق عليها في بعض الأحايين الازدواجية التقنية، ناهيك عن الازدواجية الاجتماعية وهي الحالة التي يعيشها المجتمع بسبب وجود تعارض ما بين النظام الاجتماعي السائد، الأعراف، التقاليد المهيمنة والنظام الاجتماعي المستورد, الذي هو تعبير عن نظام اقتصادي متقدم ومعاصر، حيث إن كل نظام اجتماعي يمثل فكراً اقتصادياً وعليه فإن الفكر الاقتصادي السائد غربي المنشأ والولادة ويتناطح مع كثير من المفاهيم الاجتماعية المُتعارف عليها ما يخلق نوعاً من التجاذب ما بين النظامين الاقتصادي والاجتماعي وينعكس سلباً على أداء الوحدات الاقتصادية، ومن بعد عدم قدرتها على تحقيق الأهداف المرسومة لها ضمن الخطط الموضوعة. النمو المتواصل من خلال التوظيف الأمثل للموارد الاقتصادية المتاحة من الأهداف الاستراتيجية لأي دولة من الدول، وبناءً على نظرية النمو الاقتصادي فإن التغيير المنشود لن يكون بوتيرة مُتسارعة ما لم يكُن هناك زيادة متواصلة في تكوين رأس المال الثابت وهو الذي يتطلب مزيد ومزيدا من المدخرات, التي ستكون على حساب الإنفاق الاستهلاكي الجماعي. وضمن هذا المنظور، فإن التخطيط الجيد لا بد أن يأخذ في حسبانه إيجاد علاقات اقتصادية متناسقة ومتناغمة مع درجة الوعي الحضاري والاجتماعي لأفراد المجتمع لأهمية التخطيط والأرضية التي يقف عليها بحيث يتم تحقيق الأهداف المرسومة, المتمثلة في نمو اقتصادي عال، ولعل تجربة الاقتصاد السوفيتي في ذلك الوقت يمكن الاستفادة منها وذلك من خلال التخطيط المركزي لموارده والنجاحات التي حققها في ذلك الوقت، وقد اعتبرت مصدر إلهام لدولٍ كثيرةٍ مثل الهند في التركيز على التخطيط الاقتصادي لمواردها المتاحة. حتمية التدخل الحكومي لرسم الخطط نتيجة لغياب التنظيم في الأسواق سواء كانت أسواق سلع نهائية، خدمات، أو عناصر إنتاج ما سبب عدم الكفاءة في استخدام الموارد كونها نادرة وتحتاج إلى استخدام رشيد، لذا لا بد من وجود جهاز تخطيطي يشرف على وضع الخطط بغرض توجيهها الوجهة السليمة للقنوات الأكثر إنتاجية، كما أن التحولات الهيكلية للاقتصادات النامية لابد لها من خطط تعمل على تحفيز النمو الاقتصادي وإعادة البناء المؤسسي والتغيير الهيكلي لتحقيق ذلك.
ومن المناسب في هذا المقام إعادة التأكيد بأن استراتيجيات التنمية معروفة لكن الغير واضح هو مدى قدرة هذه الخطط على استيعاب المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة لتتناغم مع الأهداف الموضوعة الخاصة بكل مجتمع. فعندما نأخذ في الاعتبار الازدواجية الاجتماعية على سبيل المثال، فإننا نؤكد قدرتها على التأثير في استراتيجيتنا المرسومة، فالخطة التي لا تأخذ في الحسبان الظروف الاجتماعية كالعادات، التقاليد، والوعي الثقافي ستكون ناقصة، عرجاء، وفيها تشويه للخطة إضافةً إلى ما تسببه من هدر للموارد المالية التي نحن في أمس الحاجة لتوظيفها، لذا فمن الواجب تكييف الخطة لتتلاءم مع ظروفنا الاجتماعية. ما الضير من تأجيل بعض المشروعات الصناعية التحويلية أو جدولتها والتي لن تؤثر في مسيرتنا الصناعية بسبب حاجتها إلى الأيدي العاملة المُدربة إلى أن تُثمر جهود التدريب والتوعية بقيمة الإنتاج والعمل!. أليس من الأجدر بنا استثمار هذه الأموال في مشاريع إنتاجية أخرى مهمة فيها توظيف ودخل بدلاً من المليارات التي يخسرها اقتصادنا كتحويلات للخارج!! بل يُمكن توظيفها في مشاريع البنية التحتية اللازمة للتنمية, التي ستحقق أثراً إيجابياً مستقبلياً في الصناعة والاقتصاد الوطني برمته. الصناعة التي لا تقوم على سواعد أبناء الوطن ليست بصناعة واعدة، ولأننا بحاجة ماسة للتنمية فلا بد من وجود تواءم ما بين الخطط والبرامج التوعوية التي تساعد على خلق جيل عامل يتفانى من أجل رفعة بلده.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي