إندونيسيا ومواجهة المتطرفين مجددا
واجهت إندونيسيا، أكبر الأقطار الإسلامية من حيث عدد السكان، كثيرا من الأعمال الإرهابية على يد تنظيم الجماعة الإسلامية وزعيمها المتطرف أبوبكر باعاشير، من تلك التي أزهقت الأرواح وفجرت الممتلكات ودمرت القطاع السياحي في الأرخبيل الإندونيسي، بما انعكس سلبا على حياة المواطنين واستقرار البلاد. وهي لئن شهدت في الأعوام الأخيرة تقدما في محاربة الجماعات الإسلاموية المتطرفة وقطع دابرها، بفضل دعم المجتمع الدولي والعلاقات الأمنية والاستخباراتية مع شريكاتها في تكتل آسيان الجنوب شرق آسيوي، إلا أن من الواضح اليوم أنها ما إن تتخلص من مثير للشغب والفتنة حتى يظهر لها آخر بالمواصفات نفسها أو ربما أفظع.
ففي الآونة الأخيرة عاد إلى جاكرتا، من بعد غياب اختياري في منفاه في إحدى دول الشرق الأوسط، الداعية المعمم الخمسيني من أصل حضرمي رزاق شهاب العلوي، زعيم ما يسمى جبهة الدفاع عن الإسلام، الذي له أتباع ومريدون كثر ضمن ملايين الشعب الإندونيسي، "يزعم التنظيم أن له من الأتباع 15 مليون نسمة معظمهم في غرب جاوه، التي تعد أحد أكثر الأقاليم الإندونيسية اكتظاظا بالبشر. وظهور الرجل مجددا بعد مغادرته بلده عام 2017 إثر فضيحة تورطه في نشر وتبادل الأفلام والصور الإباحية، في وقت تقود فيه البلاد حملة كبيرة للتصدي لجائحة كورونا المستجد والتخلص من تداعياتها المؤلمة على الأرواح والاقتصاد المنهك أصلا، قرع أجراس الإنذار في الدوائر السياسية والأمنية في جاكرتا خشية أن يقنع الرجل البسطاء من أتباعه بانتهاك إجراءات التباعد الاجتماعي من أجل حضور محاضراته وندواته والاستماع إلى خطبه الرنانة حول إقامة الدولة الإسلامية ومحاربة الفجور، كما اعتاد.
والحقيقة: إن السلطات الإندونيسية جهزت نفسها مبكرا لعودته، رغم زعمها أن الرجل فقد كثيرا من مصداقيته ولم يعد قادرا على تحريك الجماهير، وهو ما اتضح أنه مجرد أمنية. فبمجرد أن وطئت قدماه مطار جاكرتا في العاشر من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، بدأت المتاعب بتجمهر الآلاف من أتباعه - دون كمامات واقية - في المطار لاستقباله وتحيته، بل تجاوز هؤلاء موضوع الاستقبال إلى إلحاق أضرار بمطار سوكارنو - حتا الدولي بعد أن خطب فيهم شهاب خطبة، قال فيها: إنه عاد لقيادة ثورة ضد قادة مزورين، داعيا إياهم إلى المقاتلة في صفه، لأن الديمقراطية الإندونيسية أكثر حرمة من أكل لحم الخنزير، حسب قوله.
اقتيد شهاب بعد وصوله إلى الشرطة للتحقيق معه في جملة من التهم التي لا تزال قائمة ضده، ومنها تهمة احتفاظه بعلم تنظيم "داعش" الإرهابي، وهي تهمة بررها بأنه احتفظ بالعلم لأنه يحمل الشهادتين، وأن ذلك كان رد فعل لقيام جماعة نهضة العلماء الإندونيسية، أحد أحزاب البلاد الكبرى الذي تزعم رئيسها الأسبق عبدالرحمن وحيد إندونيسيا، بحرق أعلام حزب التحرير المتطرف المحظور منذ عام 2017 لخطورته على أمن البلاد. ومن التهم الأخرى قيامه بالتحريض ضد استخدام الروبية الإندونيسية بدعوى أن تصميمها الجديد يحتوي على رموز شيوعية خفية. إلا أن خشية السلطات من إثارة أتباعه للشغب والفوضى دفعتها إلى إطلاق سراحه مع تقييد حركته.
لكن هذا لم يمنعه من استقطاب أنصاره إلى مقره لإلقاء الخطب التحريضية فيهم، فأضاف إلى قائمة التهم الموجهة إليه تهمة جديدة هي الإخلال بالإجراءات الاحترازية الصحية لمكافحة جائحة كورونا. وحينما حددت السلطات السابع من كانون الأول (ديسمبر) الجاري لاستجوابه حول التهمة الجديدة لم يحضر، وتبين أنه خرق تقييد الحركة المفروض عليه وغادر مسكنه مصطحبا زوجته وأولاده وعددا من أتباعه المقربين في سيارة دفع رباعي محملة بالأسلحة والفؤوس والسيوف. أرشد المخبرون المدنيون السلطات بتحركه فتعقبته قوات الأمن التي أطلقت النار على سيارته وقتلت ستة من أتباعه.
هذه الواقعة كانت كفيلة لتجمع حشد من أتباعه في اليوم التالي ومحاولتهم الانتقام بحرق مركز للشرطة في جاكرتا. وكما جرت العادة في مثل هذه الوقائع، انبرت منظمات حقوق الإنسان الغربية للدعوة إلى تحقيق شفاف في الحادثة وتحميل جاكرتا مسؤولية القتل دون محاكمة، قائلة: إن ردة فعل الأخيرة كانت مبالغة.
وجملة القول: إن إندونيسيا دخلت حقبة جديدة من الصراعات مع جماعاتها الدينية المتطرفة، وعليها أن تحقق في مصادر تمويلها، التي يقال: إنها آتية من جماعات سياسية معارضة وأحزاب أوليجارية من تلك التي تعتقد أن رزاق شهاب، قوة مؤثرة في جلب الأصوات الانتخابية لها في المستقبل، خصوصا أن الرئيس ويدودو، وصف أفعال شهاب وجماعته، بأنها تهدد الوطن ووحدته، فضلا عن ترديد الجنرال أدهم عزيز رئيس الشرطة، عبارة: "الدولة لن تركع للضغوط"، واتخاذ الجنرال دودونج عبدالرحمن الحاكم العسكري الإقليمي لجاكرتا، موقفا متشددا من شهاب وتنظيمه، الذي قام منذ تأسيسه عام 1998، بهجمات كثيرة ضد أماكن الترفيه والسياحة دون عقاب.