رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


تحولات التوظيف

مرت الإنسانية بتحولات تقنية متتابعة منذ القدم، لكن التطورات التقنية خلال القرنين الماضيين والقرن الحالي لم يسبق لها مثيل في التاريخ. وتتسارع في الوقت الحالي التغيرات التقنية، كما يرتفع تأثيرها في البشرية وكل أشكال الحياة والبيئة. وتؤثر التغيرات التقنية في نواحي الحياة الإنسانية كافة التي من أبرزها الوظائف والعمل والدخل والعلاقات الاجتماعية والدولية. قاد اكتشاف الآلة والأجهزة الحديثة وتطويرها في القرنين الماضيين، إلى قفزات هائلة في إنتاجية العمالة ومعدلات الأجور، ومكنت من خفض ساعات العمل وزيادة أوقات المتعة والراحة، كما خففت أعباء الأعمال الجسدية في العمل وجميع نواحي الحياة. وأبدى كثيرون تشاؤمهم في السابق من فقدان الوظائف وارتفاع معدلات البطالة بين البشر بسبب الآلة، ولكن التطورات التاريخية أثبتت خطأ هذه التوقعات حيث تولدت وظائف جديدة تفوق الوظائف المفقودة جودة وأجورا.
يشهد العالم منذ فترة ثورة معلوماتية وتطورا للذكاء الاصطناعي والروبوتات التي باستطاعتها القيام بكثير من الأعمال التي يؤديها البشر. ويتزايد استخدام العالم واهتمامه بخدمات الحوسبة السحابية وقواعد المعلومات والتجارة الإلكترونية والأتمتة والروبوتات والذكاء الاصطناعي. وتنذر هذه التحولات بتوجه كثير من الأعمال إلى الاستخدام المتزايد للتقنية والآلة وممارسات الأعمال الجديدة وخفض أعداد الموظفين. وأدى انتشار جائحة كورونا عبر العالم والإغلاق العظيم الذي نتج عنه، إلى تسارع عمليات التحول التقني في الأعمال وجميع مجالات الحياة. وكما يقال، فإن الحاجة أم الاختراع، فإن احتياجات العالم للآلة والتقنيات الحديثة والعمل عن بعد، حتى التباعد الاجتماعي، تعاظم بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ نتيجة للجائحة.
سرعت الحكومات والشركات حتى الأعمال الصغيرة من التحولات التقنية أثناء الجائحة، وذلك للتعويض عن فاقد الإنتاجية الذي هوى بسبب الإغلاق والتباعد الاجتماعي. وارتفعت بشكل قوي أنشطة العمل عن بعد أثناء الإغلاق، ما قاد إلى بدء تحولات طويلة الأجل في كثير من الأعمال والقطاعات. حققت التحولات نجاحات ملحوظة في كثير من الخدمات والقطاعات الحكومية والخاصة، بينما ظهرت سلبياتها في مجالات أخرى وأبرزها مجالات التعليم الأساسي. ومن المتوقع أن يزداد الاعتماد على العمل عن بعد، خصوصا في الأعمال المكتبية، ولكن تطور إنتاجية هذه الأعمال في الأعوام المقبلة سيحدد مدى نجاح هذا الأسلوب فيها. ويرى البعض أن التعامل والاحتكاك المباشر بين العاملين يوثقان العلاقات بينهم ويرفع كفاءتهم ويعظم إنتاجيتهم ومستويات تبادل الخبرات والمعلومات.
كانت التجارة الإلكترونية تنمو قبل الجائحة، لكن الحاجة الماسة إليها أثناء الإغلاق في كثير من الخدمات والسلع قفز بمعدلات نموها بقوة، ما رفع معدلات الاستثمار والتوظيف فيها. وسيقود هذا التحول إلى فقدان وظائف كثيرة لدى منتجي السلع والخدمات، لكنه في المقابل سيولد وظائف أخرى في قطاعات أخرى، كالتوصيل، الذي يقوم به أفراد أو كيانات متخصصة. وعموما، فإن التحولات التقنية ستزيد حاجة المنتجين إلى مهارات الموظفين المتخصصين في التقنيات الجديدة أو التعاقد للحصول على خدمات مساندة من قبل شركات ومحترفي هذه التقنيات.
ستقود التحولات التقنية مع مرور الوقت، إلى تغيرات في هياكل الشركات، حيث سيزداد حجم بعضها وخصوصا شركات قطاعات التقنيات الجديدة والاتصالات والإنترنت والطاقة المتجددة والصديقة للبيئة والرعاية الصحية، بينما ستتراجع نسبيا أحجام بعض المؤسسات الإنتاجية المتضررة من التحولات التقنية. أما بالنسبة للتوزيع الجغرافي لأنشطة الشركات فستحدث تحولات مهمة حيث ستتغير ممارسات ومواقع شركات سلاسل الإنتاج. وستقود بعض التقنيات الحديثة، مثل الطباعة الثلاثية، إلى تحولات جغرافية في إنتاج عديد من السلع حتى داخل الدول.
تشير توقعات عدد من المختصين إلى أن حجم الوظائف الجديدة الناتج عن التغيرات التقنية - خلال الأعوام القليلة المقبلة - سيكون أعلى من الفاقد بسببها. ومن المؤكد أن التحولات التقنية المتسارعة ستتطلب إعادة تأهيل جزء كبير من العمالة والوظائف وأساليب الإدارة، وهذا يعني زيادة الحاجة إلى التدريب على التقنيات الجديدة. ستحاول الأعمال تدريب موظفيها أثناء أوقات العمل، لكن عديد من الوظائف سيستدعي تفرغا وتدريبا احترافيا ومكلفا. وقد يحجم بعض المشغلين عن تخصيص موارد كافية للتأهيل إما لندرة الموارد أو لأي أسباب أخرى، وهذا سيرفع أهمية دعم وتدخل الحكومات في إعادة تأهيل القطاعات الاقتصادية والمنتجين والعمالة.
تثير التحولات التقنية لدى بعض المختصين مخاوف من تأثيراتها السلبية في عدالة توزيع الدخل بين دول العالم وداخل الدول. حيث من المتوقع أن تقل جاذبية بعض الدول للاستثمار الأجنبي لتراجع أهمية الوظائف منخفضة المهارة والأجور وحلول الروبوتات محل كثير منها. وهذا قد يعيد بعض الصناعات إلى الدول المتقدمة ويرفع معدلات البطالة في الدول منخفضة الدخل، ما سيرفع فجوات الدخل بين الدول. أما داخل الدول فستقل الحاجة إلى الوظائف محدودة المهارة، ما يعني تراجعا نسبيا في أجورها مقارنة بالوظائف عالية المهارة التي سيرتفع الطلب عليها. وتستدعي مثل هذه التطورات ضرورة التركيز بشكل أكبر على رفع مهارات الأيادي العاملة على التقنيات الجديدة، وكذلك تحسين أداء وتغطية شبكات الأمان الإجتماعي للحد من تأثير التغيرات السلبية في عدالة توزيع الدخول. وتعاني شرائح سكانية معينة عادة من سوء توزيع الدخول وتشمل هذه الشرائح عادة الأقليات والنساء والشباب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي